يجب أن يكون واضحاً منذ البداية أننا نتحدث عن امرأة وصلت إلى الحافة وقفزت. لم تستطع أن تنتظر أكثر. لا نعرف الخفايا التي عصرت قلبها إلى هذا الحد، ولكننا رأيناها على هذا النحو: جالسة على الحافة، ثم استسلمت بعدما حضرت نفسها للغياب. زجر زوجها بصوت ناعم، محاولاً «ثنيها»، ولكنها ردت زاجرة إلى الأبد في وجه كل شيء. والمفارقة أن الناس يتحدثون هذه المرة كما لو أنها شاركت في الحادثة. هذا ليس مديحاً للقسوة، ولكن، كأن الجميع كان واقفاً هناك، قرب الشقة الجميلة في «الرملة البيضاء»، وسمع صوت العظام وهي تتكسر. لقد منحهم عرض الفيديو على صفحة إحدى المدونات هذا «الحق». أن يشاركوا في «انتحار» أمينة، وأن يتصرفوا كما يملي عليهم موروثهم الثقافي: أن «يحللوا» قرارها ويتدخلوا فيه. أن لا ينتظروا التحقيقات، بل أن يقذفوا موروثاتهم فوق الموت، كما قذفت أمينة روحها إلى الأرض. حاكموها بعدما حاكمت العالم. والواقع أن مشاركتهم ليست أمراً سلبياً بالضرورة هذه المرة. لقد وجه جزء منهم الأسئلة.
من يعلم. قد يكون الانتحار قراراً هطل على رأسها بالباراشوت. ولكن «التحليل» ليس وظيفة أحد. تقول القصة إنها عادت من أنغولا قبل يومين. يعرف العارفون أنها لم تكن سعيدة هناك، ولكن على ماذا تطل شرفات أنغولا. لم تنتحر في أفريقيا، بل عادت. سرت شائعات تقول إنها اكتشفت أطفالاً لزوجها من طليقته (تبين لاحقاً أنها صحيحة)، رغم أن «شهر العسل» بينهما، كما يتضح على «الفايسبوك» كان طويلاً. لا يمكن تحديد الأشياء التي حصلت في أنغولا بالضبط، إلا أن صوت الزوج في الفيديو كان واضحاً. طلب منها أن تفكر بوالدتها إن لم تكن «سعيدة معه». ولا بد من التذكير، «التحليل» ليس وظيفة أحد. هذا ما حدث، وقد يقوله الرجل في لحظة انكسار. بلا شك، فاجأته أمينة، وفاجأت الجميع. اختارت شرفة المنزل الجديد، وحضور الزوج. بدا الأمر بمثابة احتجاج حاسم. رأته يصور ولم تكترث. رفضت العالم دفعة واحدة ولم تستثن منه سوى والدتها. هذه قصص تشعل سجالات عادةً، لكن الجميع شاهدوا كل شيء هذه المرة، وأصبحوا مشتركين في الحادثة. أمينة ليست مجرد امرأة قذفت حياتها إلى الأرض، فور عودتها إلى مكان يمكنها القفز منه. لقد وصلت إلى الحافة التي يصل إليها كثيرون، ولكنها قفزت بلا صخب. حتى إنها لم تطلب منه أن يتوقف عن التصوير. ربما لم تكترث، ربما استعجلت، وربما أرادت أن نشاهد. ومن ألطاف الله أنه لم يتبعها ويتابع التصوير. سمعنا صراخ الرجل الذي لم يفلت هاتفه، بل صوّبه إليها بتركيز لافت، يفوق دعواته إليها للتراجع. «التحليل» ليس وظيفة أحد، لكن مقربين منه أكدوا أنه تمسك بالتصوير كي لا يتهم بقتلها. ويطرح هذا سؤالاً أخلاقياً عملاقاً، لكنه تقليدياً: لماذا ينتحر المنتحرون؟ أمينة واحدة منهم، ولكنها وُجدت، من طريق الصدفة، لتفضح «هشاشة» المجتمع، الذي غرق في سيل من التحليلات، ولم يقم حساباً لرهافة المرأة التي تعبت.
وفي منزل أهلها، الكائن في منطقة الحوش، بضواحي صور، تعالى النحيب أمس. أصوات شكلت «حاجز مرور» مستحيل أمام وسائل الإعلام، أو أي شخص حاول اقتحام انهيار عائلة أمينة إسماعيل. رغم أن الصبية ذات الثلاثين عاماً ليست الوحيدة في لائحة المنتحرين الطويلة، إلا أن «الفيديو» فعل فعلته. في صور تحدثوا بالقصة، وأثيرت سجالات، بدأت في مكان الحادثة، وامتدت إلى مخفر درك الرملة البيضاء الذي يتولى التحقيق في الحادثة حتى منزل عائلتها في صور، وصولاً إلى مكان إقامتهما في أنغولا. لكن الألم الأعظم هو في منزلها. هناك حيث وقف قريب لها غاضباً، أثناء مراسم العزاء، قبل تشييعها يوم الأحد المقبل. رفض الشاب أي حديث بالأمر. كانت عيناه ترمقان كل من يحاول استراق النظر أو السماع لرثاء أمينة أو معرفة أسباب انتحارها. اكتفى الجميع بالرثاء العادي. لا قصص. هناك وحسب احترموا موتها. حضر أشقاؤها، وزوجها بقي في بيروت. أوساط مقربة من عائلة أمينة نقلت عنها «رفضها الإدلاء بأي تصريح إعلامي قبل مرور أيام عدة ينتظر خلالها انتهاء التحقيقات» التي يجريها مخفر درك الرملة البيضاء. كذلك رفضت توجيه اتهام لزوجها بالتسبب بوصولها إلى ذاك المصير. العائلة تنتظر أيضاً انتظار نتائج عدد من الفحوص المخبرية والتحاليل الطبية، مطلع الأسبوع المقبل. وفيما فضل أقاربها عدم تقديم تفاصيل أخرى، رجح مقربون أن تكون الفحوص لعيّنات دم أخذت لأمينة لمعرفة ما إذا كانت في «حالة صحية سليمة» لحظة انتحارها. في «الفيديو» كان صوت الزوج مسموعاً، وكان صوت انتحارها مدوياً.
كانت أمينة مخطوبة وانفصلت ثم تزوجت كفاح. والداها انفصلا في صغرها. ولكن مجدداً: «التحليل» ليس وظيفة الناس. كانت صداقاتها قليلة، هذا بعض ما تناقله عارفوها الذين لفتوا النظر إلى أن العروسين سافرا مطلع الشهر الجاري خارج أنغولا لقضاء عطلة سياحية في بلجيكا، حيث عاش الزوج سابقاً، وعادا إلى لبنان يوم الجمعة الفائت، وبقيا في بيروت بدلاً من أن ينتقلا مباشرة إلى الجنوب لزيارة أهلهما في صور وحاريص، حيث كان مقرراً أن يذهبا يوم الأحد. ولكن «آيمي» اختارت أن تذهب وحدها، أثناء «تفحص» الشقة الجديدة، المحطة التالية في زواج دام 7 أشهر. «آيمي»، هكذا كان اسمها على «فايسبوك»، وإلى جانبه عائلتها وعائلة زوجها. آيمي إسماعيل أحمد. الصفحة مليئة بأكثر من مئة صورة لعروسين سعيدين مذيلة بتعليقات لها ولأصدقائها وأقاربها عن «شهر العسل الذي لم ينته»، بحسب تعليق من قريب لها يعود تاريخه إلى التاسع من الشهر الجاري. قضائياً، أُخلي سبيل كفاح أ.، زوج آمنة إسماعيل، بعد الاستماع إلى إفادته. وأشارت المعلومات إلى أن المحققين «لم يقتنعوا بإفادة كفاح بشأن الدوافع الكامنة خلف انتحار زوجته»، لكنهم أكّدوا عدم وجود «أي دليل على تورطه في ما حصل». وقد أدلى كفاح خلال التحقيق بأن زوجته كانت تعاني من إحباط نتيجة وجودهما في أفريقيا»، وأنه «فوجئ بأنها خرجت من دون سابق إنذار إلى الشرفة وجلست على حافتها، ثم طلبت منه إخبار والدتها بأنّها تُحبّها ثم قفزت». أما عن السبب الذي دفعه إلى تصويرها، فذكر أنه «فعل ذلك لاإرادياً».
في المحصلة، يصح القول إن قضية أمينة لم تعد شخصية، إذ سببت ألماً جماعياً. وهذا ليس اتهاماً لأحد، لكن انتحار أمينة حدث باسمنا جميعاً. حدث ضدّ المجتمع الذي ينظر إلى المرأة بوصفها كائناً هشاً. تقول القصة، باختصار شديد، إنها اختارت الطريق الأصعب لرفض عذاباتها: هناك على تلك الشرفة المرتفعة أدارت أمينة ظهرها للعالم، وقفزت.
أمينة التي تركت لنا صورة موتنا
،