إن كان اللبنانيون يمضون أيامهم العادية متنقلين بين زحمة أعمالهم اليوميّة وزحمة النشرات الإخبارية والأخبار الأمنية المتسارعة، فإنّه يجب في بعض الأحيان تذكيرهم بضرورة التوقّف لحظات عن الدوران في هذه الدائرة المفرغة، والوقوف ولو حتى للحظات قليلة للتأمل في ما يجري من حولهم. كثيرة هي الأمور الخطيرة التي تخطتنا حتى الآن. البعض يمكن إصلاحه والبعض الآخر قد يكون فات الأوان عليه، لكن المؤكّد أنّ اليوم العالمي للشباب، يستحق وقفة تأمّل طويلة من اللبنانيين، تقود إلى أفعال إنقاذيّة حقيقية، إذا ما أردنا أن نسترجع حياتنا في هذا البلد. بحث بسيط في الوقائع لفهم واقع الشباب اللبناني، يقودنا إلى اكتشاف النتائج الكارثيّة لما يحصل في البلد. صفارة الإنذار في رأس كلّ واحد منّا، وصفارات الإنذار، التي من المفترض أن تكون حاضرة وواعية في أذهان سياسيي هذا البلد، كان يجب أن تنطلق منذ زمن بعيد، لكن هذا الأمر لم يحصل حتى الآن.
فنحن نشهد لدى كلّ الأجيال المتعاقبة، هجرة نسبة 52% من رعيل الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 35 و39 عاماً! 59% من الذكور ضمن هذه الفئة يهاجرون، و45% من الإناث.
خطورة الأمر لا تقف عند هذا الحدّ، إذ إنّ نسبة الهجرة في لبنان تكاد توازي نسبة النمو الطبيعي للسكّان. ما يعني أنّ عدد اللبنانيين المقيمين في البلد توقّف عن النمو. نحن نخسر الشباب وبالتالي مجتمعنا يتّجه نحو الشيخوخة.
المجتمعات الغربية والأوروبيّة على نحو خاص تسير أيضاً نحو الشيخوخة، إذ إنّ الأمر المثبت، أنّ تعلّم النساء عالمياً يؤدي إلى انخفاض معدّل الولادات، لكن المشكلة أنّ الغرب حقق الكثير قبل أن ينتقل إلى مرحلة التقاعد، بينما نحن لم ننتشل مجتمعنا من معظم مشاكله بعد، حتى نواجه مشكلة فقداننا الشباب، الذي من المفترض أن ينشأ أمل التغيير معه. فهل صحيح أنه لا أمل لدينا؟ وما هو تأثير الأمر على البلد؟
الوزير السابق شربل نحّاس يرى أنّ «مجتمعنا يتّجه ليشبه المجتمعات الخليجيّة. فنحن نعتمد أكثر فأكثر على يد عاملة أجنبيّة ظرفيّة، ولبنان يتخصّص أكثر فأكثر في أنشطة غير متطوّرة ولا تستدعي الكثير من الكفاءات والاستثمارات، أمّا الاهتمام بالمظاهر والقشور، فأصبح ظاهرة مرضيّة لدينا»، لكن نسبة كبيرة من سلوكيات أهل الخليج الاجتماعية تدعمها الأموال التي جرى ضخّها في البلد مع النفط، لكن أين هي الأموال التي لدى دولتنا والتي نعتمد عليها؟ لا يهم يجيب نحّاس، فنحن نرسل شبابنا إلى الخليج العربي لكي يكسبوا الأموال، ونحوّل مجتمعنا إلى النموذج الخليجي بفضل عمل هؤلاء.
كما في كلّ مرة، محاولة البحث عن الحقائق العلميّة التي تخصّ هذا البلد تصطدم بعوائق عديدة. أوّلها طبعاً غياب الإحصاءات الرسميّة والموثوق بها. بالنسبة إلى نحّاس هناك ثلاث دراسات إحصائيّة بالعيّنة فقط، في هذا الموضوع، يمكن بناء استنتاجات عليها. هذه الدراسات الإحصائيّة قامت بها إدارة الإحصاء المركزي. الأولى عن القوى العاملة عام 1970 والثانية عن القوى العاملة وميزانية الأسرة في عامي 1996 و1997 والثالثة والأخيرة نُشرت عام 2004. ويضيف نحّاس يجب العودة إلى هذه الإحصاءات الثلاثة في أي كلام جدّي في مسائل الأوضاع الديموغرافية والعمل والأوضاع الاجتماعية وإنفاق الأسر والمداخيل في لبنان. كما أنّه ما من تعداد للسكّان والمقيمين في لبنان منذ عام 1932.
من هنا يقول نحّاس «نحن لا نعرف عدد المقيمين في لبنان أو عدد اللبنانيين في لبنان. لا نعرف حتى التركيبة العمريّة لهؤلاء أو نسبة الأجراء بينهم مقارنة بمن يمارسون المهن الحرّة، لكن من القليل الذي نعرفه نحن قادرون على الاستنتاج بأنّ نسبة هجرة الشباب توازي نسبة الولادات، وبالتالي فإن عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان توقف عن التطوّر. فمنذ عشر سنوات إلى اليوم عدد الأطفال في المدارس توقف عن الازدياد، لا بل هو يتراجع. بعد فترة لن نحتاج إلى بناء مدارس جديدة، وبالتالي لن نحتاج إلى المزيد من المعلّمين. ما يعني أنّ القوى العاملة لدينا، التي تراوح أعمارها بين 20 و65 سنة، لا تتزايد. إلا طبعا اذا تغيّرت نسبة النساء اللواتي يعملن. وهذا إذا ما بقي السلوك الحاصل هو نفسه». ويشير نحّاس إلى أنّ نسب الهجرة أكثر ارتفاعاً بين طلاّب الدراسات العلميّة والمهنيّة. وإذا قرّر هؤلاء البقاء في لبنان، فهل القرار بمتابعة دراساتهم العليا في منطق المحاسبة الاقتصادي الكمّي مجدٍ؟ أي هل هو قرار مبرّر أم لا؟ الجواب هو بالتأكيد لا بالنسبة إلى نحّاس، وخاصة إذا ما كان الطالب يتابع دراسته في جامعة خاصة. فهو خلال دراسته يخسر الأجر الذي كان سيكسبه لو أنّه دخل الدورة الاقتصادية، كما أنّ أهله يدفعون أقساط الجامعة، وهو يطمح إلى مضاعفة راتبه بمجرّد اقتنائه الشهادات العليا. الأمر الذي لا يحصل في لبنان، بالتالي لا تبرير اقتصادياً للموضوع إلاّ إذا كانت النيّة في الهجرة بعد الدراسة.
أقوى أسباب الهجرة بالنسبة إلى نحّاس، وما أظهرته الدراسات، هو العامل الاقتصادي، أو الفروق بين القدرة الشرائيّة الفعليّة بين لبنان والبلاد المهاجَر إليها، لذلك يهاجر شباب لبنان، فيما جرى استبدالهم بعمال وافدين من بلدان أفقر.
من هم الوافدون من الدول الأخرى؟ يقول نحّاس إنّ الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية يتزايد منذ ما قبل الأزمة السوريّة. الفلسطينيون في لبنان، هم خارج هذه الشريحة، بما أنّهم مستقرّون مع عائلاتهم في لبنان، وبالتالي القدرة الشرائية لديهم تخضع للاعتبارات ذاتها التي يخضع لها اللبناني. ويضيف نحّاس إنّ «اللافت في الهجرة الوافدة الينا أنّها تشبه النموذج الخليجي لا الأوروبي. أي إنّ العامل يدخل البلد وحده، من دون أسرته، وبصورة مؤقتة. ونحن نشهد في لبنان على نحو منتظم ومتراكم تحوّلاً في بنية الاقتصاد، أي إنّ المهن والقطاعات التي هي في طور التوسّع، هي البناء والمطاعم والحرّاس الأمنيون الخاصون، وبالتالي فإنها مهن لا تحتاج إلى كفاءة عالية أو تجهيزات واستثمارات فنيّة كبيرة».



تعليم الفتيات

رغم التطوّر الذي يدّعيه المجتمع اللبناني، فإنّ انخراط المرأة اللبنانية في مجال العمل لا يزال متدنياً جداً، وإن كانت نسبة الإناث في الجامعات أكبر من نسبة الذكور فيها. يشير هنا الوزير السابق شربل نحّاس إلى أنّ هذه الظاهرة لافتة لدينا، «إذ إنه اقتصادياً لا معنى للموضوع. لا معنى من تعليم النساء ودفع تكاليف المدارس والجامعات لتذهب بعدها معظم النساء إلى حياة ربّات المنازل. تفسيري للموضوع أنّه ربما ما زالت المرأة تعتقد أنّها تتعلّم لتستثمر في أطفالها. فتتعلّم لتنشئ أطفالاً «شاطرين»، ليتعلّموا بدورهم ويهاجروا»، لكنّ نحّاس لا يلغي أنّ بعض الفتيات في لبنان يتعلّمن أيضاً من أجل الحصول على فرصة زواج أفضل. حتى إنّ بعض الفتيات يرين في الجامعة مساحة للالتقاء بزوج المستقبل، الموضوع واضح بالنسبة إلى نحّاس من كميّة التبرّج التي تضعها بعض الفتيات للذهاب إلى الجامعة، كما يدخل عامل أخير ألا وهو إصرار الرجل اللبناني على رفض تقديم يد العون في الواجبات المنزليّة.