انتظروها لارتشاف قهوة الصباح ولم تأت. أكملوا صباحهم الهادئ، ظناً منهم أنها قد تأتي في أية لحظة. لكنها، لم تفعل ذلك. وعندما مسّهم غيابها، ذهبوا إليها. طرقوا باب بيتها، ولم تجب. فعلوا ذلك مراراً، ولم يأتهم وجهها الطفولي. أثقلهم الانتظار، فلم يجدوا أمامهم خياراً إلا خلع الباب. دخلوا. نادوا «يا فاطمة». لم تجب. هرعوا إلى غرفة نومها. رأوها. كانت سابحة في دمها الفاتر. ومن رقبتها الطرية، كان دم آخر ينزّ.
فاطمة بكور «العروس الجديدة»، ذبحت قبل أن تكمل عامها الأول من الزواج. أوت إلى موتها باكراً، وفي رحمها طفل التصق، هو الآخر، بموته إلى الأبد. بكى الواقفون عند رقبتها التي حزّتها السكين. حدث ذلك في الواحد والعشرين من آب الماضي. وفي الثاني من أيلول، حمل القاتل سكّينه ومثّل الجريمة. لم يخطر في بال أحد أن يكون القاتل هو زوجها خ. غ. ووالد الطفل الذي بقي معلقاً في جوفها. قتلها من أجل مصاغ ضئيل، يفترض أنه كان «مهر» زواجها منه. قتلها بدمٍ بارد في اللحظة التي كان فيها «الذكوريون» في اللجنة المنبثقة عن اللجان المشتركة يهللون لتفريغ مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري من فكرته الأساس: تحرير السلطة الذكورية من دنس القتل وإدانة سلوكيات النساء المستخدمات غالباً من هؤلاء لتبرير التعنيف.
هكذا، قتلت فاطمة بكور. قتلتها الذكورة والموروثات. وهكذا فعلت بأخريات مثل رلى يعقوب التي تمّ توقيف زوجها كرم ب. بعدما افاد شهود بأنه ضربها بعصا على رأسها أمام طفلاتها الخمس ولم يأبه لأنينها الموجع. وبعد موتها، خرج الكثيرون ليحرروا كرم من «شبهة» القتل. مارسوا ضغوطاً كثيرة للفلفة ما فعله، مغلفاً بتقارير مشكوك بصحتها. تلك التي اعتبرت أن موت أم الخمسة أطفال «ناجم عن انفجار أحد شرايين الدماغ بسبب تشوّه خلقي». وحتى اليوم، مع إعادة تشريح جثة الشابة التي ماتت آب الماضي أيضاً، لا يزال الشك سيّد الموقف، وكرم القابع على ذمة التحقيق قد يحرره ذكور يشبهونه في أية لحظة من قضبان السجن.
قبل رلى، رحلت أخريات يقال إن عددهن بلغ في السنتين الأخيرتين 26 سيدة. وفي العام الذي ينتهي اليوم، بلغ عدد القتيلات 10 سيدات. قتلهن أزواجهن أو أشقاؤهن أو أبناؤهن في فترة ثمانية أشهر. منهن بغداد العيسى التي اصطاد شقيقها قلبها بحجة «تدنيس الشرف»، وهي التي واجهته بحملها منه. وبثينة الزين التي أحرقت جسدها بسبب تعنيف زوجها وخيانته لها. وسونيا ياغي التي قتلها شقيقها لأنها مشت مع حبيبها في الشارع على «عين الناس». والمهووس الذي اصطاد قلب زوجته في جديدة المتن بسبب تخيلاته. والشاب الذي قتل والدته آدال لحود بمعول الزراعة في وادي بنحليه في الشوف. والآخر الذي قتل والدته مالكه مرسال في بلدة السمقانية بسبب طمعه بالمال. وغيرهن كثيرات.
10 سيدات في ثمانية أشهر. وهن اللواتي عرفنا بموتهن. لكنهن لسن الضحايا الوحيدات للعنف الأسري، فثمة أخريات قد يكن متن بالطريقة نفسها، ولكنهن دفنّ بصمت. وإن كان «كتار ماتوا»، إلا أن ثمة من لم يمت، ومنهن مثلاً زينب عواضة وريم زكريا اللتان نجتا من الضرب القاتل على الرأس. وإلى هؤلاء تضاف أعداد كثيرة، تقارب الـ450 حالة «لنساء معنفات وما يزيد على 2500 اتصال لضحايا عنف أسري يطلبون استشارة أو مساعدة»، بحسب المحامية ليلى عواضة من منظمة كفى عنف واستغلال. وهذه أعداد تفوق التوقعات في منظمة واحدة، فكيف حال البقية؟
هكذا، سيقفل العام الحالي على 10، فيما مشروع القانون العالق منذ أول حادثة موت علنية قبل 3 سنوات، خرج هذا العام من اللجان المشتركة ممسوخاً بالصيغة التي ارتآها الذكوريون، خرج من هناك في الشهر الذي قتلت فيه رلى وفاطمة. ومعه، حمل هذا العام أيضاً «قراراً إدارياً» يتيماً أصدرته المديرية العامة للأمن العام والذي يقضي «بإعطاء النساء والرجال حقوقاً متساوية عند إصدار جوازات السفر والإذن بالسفر لأولادهم القاصرين». وإن كان القرار الأخير يعد انتصاراً، إلا أن الأول كان مقززاً، فالتعديلات التي طالته حاولت قدر الإمكان «تحصين» الذكورة ومراعاة الموروثات. حتى علت أصوات من قبيل «الحاجة للمحافظة على حقوق الرجل». تلك الجملة التي صارت جواباً جاهزاً للرد على القانون المطروح. علماً أنّ الإحصاءات تطمئن إلى أنه لا خوف على الرجل من المرأة، إذ تشير دراسة لمنظمة الصحّة العالمية إلى «أن 40% من النساء اللواتي يتعرضن للقتل في العالم، يُقتلن على أيدي أزواجهن أو شخص في عائلتهن، وهذه النسبة هي أعلى ست مرّات من الرجال الذين يقتلون على أيدي زوجاتهم». وتضيف الدراسة أنه «غالباً ما يكون سبب قتل الزوجة للزوج دفاعاً عن النفس، بينما يقتل الرجل زوجته أو صديقته بسبب الغضب أو الغيرة، كذلك فإنّ معظم النساء اللواتي يقتلهن أزواجهنّ يكنّ قد أبلغن الشرطة عدّة مرّات تعرّضهن للعنف الأسري». ولمزيد من الاطمئنان، تشير دراسة ميدانية للدكتورة فهمية شرف الدين بعنوان «آلام النساء وأحزانهن: العنف الزوجي في لبنان»، إلى أن «87% من النساء يتعرضن لعنف كلامي و68.3% يتعرضن لعنف جسدي و55% يتعرضن لعنف جنسي، في حين أن 65% من النساء يتعرضن لعنف اقتصادي». كل هذا يحصل في ظل غياب الدولة المقصود. وهنا، الغياب ليس فقط عن العنف، وإنما عن حقوق أخرى، فماذا لو عرفنا أن نشاط لجنة حقوق المرأة والطفل النيابية اقتصر خلال العام الحالي على «البدء بإعداد اقتراحات قوانين لمعالجة التمييز ضد المرأة». هذا ما فعلته اللجنة. أما المجلس نفسه، فلم يفعل شيئاً، وهو المعطل إلى ما لا نهاية. وجل ما تحقق، نتف لا تفي بالغرض، منها مثلاً «تعديل المواد 3 و5 و6 و7 من المرسوم 3950 لجهة ازالة التمييز بين الزوج والزوجة بالنسبة إلى حق الاستفادة من التعويضات العائلية والمادة 15 من المرسوم 5883 لجهة ازالة التمييز بين الموظفة والاجيرة بالنسبة الى اجازة الامومة كي تتمكن كل منهما من الاستفادة من الاجازة لعشرة اسابيع مدفوعة الاجر بالكامل وتعديل المادة 31 من المرسوم الاشتراعي 144/95 المتعلقة بالمساواة في التخفيض الضريبي وتعديل المادة 9 من المرسوم 146/95 الرامي الى المساواة بين الوارث المتزوج والوارثة المتزوجة لجهة الاستفادة من التنزيل الاضافي عند احتساب رسوم الانتقال المتوجبة على الوريث». وهذه أشياء، وإن كانت مهمة، لم ترتق إلى المستوى المطلوب. ويصعب علينا تكرار السؤال: كيف كان هذا العام على صعيد القانون واقرار حقوق النساء؟ ولنقول كيف كان، يكفي مثلاً أن نذكر الموت الكثير والمرسوم 112 الجمهوري الذي جنس كثيرين وترك أولاد 18 ألف لبنانية متزوجة من أجنبي يسيرون حياتهم بإقامة مجاملة. ولكن، ذلك العام على سوئه في ما يخص القوانين، إلا أنه بالنسبة للحراكات المدنية «فقد كان مربحاً، كان عام الوعي بامتياز على الصعيد الاجتماعي والاعلامي وحتى القضائي إذ بدأ مثلاً تصنيف بعض الجرائم على أنها جرائم عنف أسري حتى في ظل عدم وجود قانون، حتى بالنسبة للإعلام صار التعاطي مع الجريمة الحاصلة يؤخذ من منظور آخر وبالنسبة إلى الضحايا أنفسهن صارت الجرأة أكبر، وهذا ما يدفعنا للقول مثلاً في حالة العنف الأسري أن أعداد الجرائم قد لا تكون زادت فجأة وإنما صار هناك وعي وجرأة للإبلاغ عنها»، تقول عواضة. وهذا، ربما، ما يدفع للتفاؤل في ظل القانون العاطل.