في 20 كانون الأول 2010، وقّعت حكومة سعد الحريري والحكومة الأميركية، ممثّلة بالسفيرة الأميركية في لبنان مورا كونيلي، مذكرة تفاهم بين الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في لبنان (USAID) ووزارة التربية، لدعم تأهيل المدارس الرسمية وتحسين شؤون المعلمين (دراستي)، بهبة تبلغ قيمتها 75 مليون دولار على مدى 5 سنوات.الهدف المعلن للمشروع تعزيز التعليم الرسمي عبر ثلاثة مكوّنات: ترميم المدارس وتجهيزها، رفع مستوى كفاءة أساتذة المواد التي تدرّس باللغة الإنكليزية، إشراك التلامذة اللبنانيين في نشاطات لاصفية وتحفيز انخراط الأهل والمجتمع في مدارس أولادهم.
أما اللافت في مذكرة التفاهم فهو احتفاظ الوكالة الأميركية بالسلطة التعاقدية مع الشريك المنفذ للمشروع، فيما اختيار الأخير مرتبط بالوكالة حصراً. والجهات المنفذة لـ«دراستي» هي شركة مركز تطوير التعليم، الجامعة الأميركية في بيروت، «أميديست»، مؤسسة الإسكان التعاوني، الجمعيات الخيرية الأرثوذكسية المسيحية الدولية، ومؤسسة الحريري للتنمية البشرية.
في الواقع، تثير الصيغ المعتمدة في تنفيذ المشروع، الذي ارتضت وزارة التربية الحالية استكماله، ريبة المراقبين التربويين. يقول هؤلاء إنّ ممثلي الوزارة غابوا عن «محادثات» مع الأساتذة سبقت الدورات التدريبية المتوقع إجراؤها عمّا قريب. يطرحون أكثر من علامة استفهام بشأن مصير المقابلات التي أدارها «أجانب من جنسيات غير لبنانية لا نعرف إلى أي جهة ينتمون».
يتوقف المراقبون عند التسجيلات الصوتية مع الأساتذة، التي تتضمن استصراحهم في قضايا لا صلة لها بأهداف المشروع. «فما علاقة تعزيز مهارات الأساتذة ومعرفة مدى حاجتهم إلى تدريب تربوي، مثلاً، بما إذا كان هؤلاء متشبّثين ببيئتهم أو ناقمين عليها، وما إذا كانوا يحبون أن يسافروا أو لا، وإلى أي بلد، وإذا كان «فلان الفلاني» من أقاربهم أو لا؟». يعلّقون: «لمسنا نهجاً استخبارياً يخرج عن نص الاتفاق وتوجهات وزير التربية د. حسان دياب الذي جزم بأنّه لم يوافق على جمع مثل هذه المعلومات».
مثل هذا النهج كان سبباً في مقاطعة عدد كبير من الأساتذة للمشاركة في اختبار تقييم أجري منذ أيام للمستهدفين بالدورات التدريبية.
مكوّن تدريب الأساتذة لم «يشغل البال» وحده، بل أيضاً التقرير «الاستخباري» المفصّل الذي وزّع على المدارس للوقوف على حاجاتها للترميم، وكذلك مكوّن الأنشطة اللاصفية وما أثارته المخيمات الصيفية، العام الماضي، من اعتراض على التوزيع الجغرافي للمدارس الرسمية المشاركة وتكثيفها في الضاحية والجنوب.
يذهب المراقبون في توجّسهم وتحليلاتهم إلى أبعد من ذلك، ليسألوا: «من يحمي حقوق الأساتذة الفردية والقانونية ويضمن عدم استخدام «الداتا» الخاصة بهم، وهي ملك لهم، لغايات سياسية غير تربوية؟ ثم هل فوّضت وزارة التربية صلاحياتها إلى القطاع الخاص وإلى دولة خارجية كي تسرح وتمرح في المدارس الرسمية كما يحلو لها، من دون مراجعة الأساتذة وأخذ رأي ممثليهم من الروابط والنقابات؟ وهل التربية أصلاً قضية محايدة لكي تدخل الولايات المتحدة الأميركية النظام التربوي اللبناني وتنقل خبراتها التقنية إلى الأساتذة وتشارك في تقييمهم، فيما يفترض أن يكون ذلك من مهمة الهيئات التربوية والرقابية المحلية؟ وهل يدخل المشروع ضمن الخطة الدبلوماسية لتبييض صفحة أميركا في المنطقة والترويج للسياسة الأميركية، وخصوصاً أنّ الوكالة ليست جمعية خيرية تقدم الهبات والمساعدات؟ وما الذي يمنع أن يكون تغيير المناهج من الأهداف البعيدة للمشروع؟».
يطالب الأساتذة، على الأقل، بأن تكون حدود البرنامج معروفة، وأهدافه واضحة وشفافة، كما يقولون.
أما المراقبون فيدركون أنّ تعزيز التعليم الرسمي يحتاج إلى قرار سياسي. فلا هذا المشروع ولا غيره يمكن أن يحقق هذا الهدف. الدولة هي من يقرّر ذلك، عبر استراتيجية تبدأ بمنع التعاقد السياسي والطائفي مع الأساتذة، ولا تنتهي برفع الدعم عن المدارس الخاصة المجانية وتطوير المناهج الوطنية كل 5 سنوات. أما ما يخصص من أموال، سواء من مصادر أميركية أو غيرها فيذهب، برأيهم، على الطريق، لا سيما أن الجهات المنفذة تبغي الربح.
حملنا كل هذه الهواجس إلى وزير التربية د. حسان دياب والمدير العام للتربية فادي يرق، لكونه يرأس لجنة التنسيق التي تتولى دور الموجّه الأساسي لوزارة التربية من أجل إرشاد الشريك المنفذ للالتزام بالقوانين والمعايير والآليات المعتمدة في الوزارة.
في السياسة العامة للمشروع، ينفي دياب أن تكون مثل هذه الهواجس في محلها، من دون أن يخفي أنّه سمع في الصيف كلاماً عن جمع «داتا» وأعطى تعليمات مشددة بعدم استخدام أي معلومات شخصية خارج نطاق المشروع، «وهكذا تسير الأمور عملياً، فليس هناك من يأخذ بيانات من هذا النوع على حدّ علمنا»، يقول جازماً. أما الحديث عن التسجيل الصوتي وتقنية بصمة العين التي أشيع أنها تعتمد في المقابلات مع الأساتذة، فهو، بحسب الوزير، كلام غير مؤكد. ويستغرب دياب أن يكون هناك من يفكر في أنّ مثل هذا المشروع قد يؤدي إلى تغيير المناهج التربوية، فمكوّن المناهج غير وارد في نص الاتفاق، ثم إنّ الأمر ليس بهذه البساطة لكي يخترق، والمناهج تقرّ في المركز التربوي حصراً. ويهمّ الوزير أنّ يؤكد أن «المشروع ينفذ بواسطة هبة وليس قرضاً، وهناك فرق».
ماذا عن مقاطعة الأساتذة لاختبار التقييم في اللغة؟ يجيب: «لا أعلم. قد تكون هناك خلفيات أخرى غير «الداتا»، منها مثلاً خوف الأساتذة من الاختبار لضعف في مستواهم».
أما يرق فيحرص في الحديث مع «الأخبار» على التأكيد أنّ المادة التدريبية للمديرين تراعي الأصول والمعايير القانونية في وزارة التربية ومكوناتها، لا سيما كلية التربية في الجامعة اللبنانية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، مشيراً إلى أنّها ليست المرة الأولى التي يجري فيها التعاون مع جهات خارجية لتدريب الأساتذة؛ فالفرنسيون والبريطانيون سبقوا الأميركيين، وكانت هناك مشاريع مماثلة بالتنسيق معهم.
وفيما يلفت المدير العام إلى أنّ التأهيل يستهدف 6 آلاف معلم، يطمئن إلى أنّ اختبارات التقييم لا تتعلق بواقع الأستاذ الوظيفي، أي إنّها لن تؤثر على تدرّجه، وكل ما في الأمر أننا نقيس معلوماته لمعرفة عدد الساعات التدريبية التي يحتاج إليها، لذلك فالمشاركة في الاختبار إجبارية وليست اختيارية.
ويبدو يرق واثقاً من ضبط الإيقاع وإدارة المعلومات ما دام التخطيط يجري في وزارة التربية، وتنفيذ مشروع «دراستي» تشرف عليه لجنة متابعة برئاسة وزير التربية وعضوية المدير العام، رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء، مديرة أمانة سر تطوير القطاع التربوي والمستشار الرئيسي لوزير التربية. ويتمثل دور اللجنة في توفير الرؤية والتوجيه بما يتناسق مع الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في الوزارة.



«داتا» أخرى من المدارس الرسمية

يرصد المراقبون التربويون في الآونة الأخيرة محاولات كثيرة لدخول المدارس الرسمية اللبنانية عبر أنشطة لاصفية متنوعة، يتبيّن بعد التدقيق في أهدافها أنّ القاسم المشترك بينها هو جمع المعلومات الشخصية عن التلامذة وأهاليهم وبيئتهم. فقد نظّمت إحدى جمعيات المجتمع المدني مسابقة تربوية في مدارس الجنوب، بدا لافتاً ما تتضمنه من أسئلة تفصيلية تتعلق بطبيعة عمل الأهل. ويتوقف المراقبون عند إصرار إحدى الجامعات الخاصة العريقة جداً على ترويج نفسها في ثانويات النبطية مثلاً عبر عروض مغرية وغير منطقية تقدمها لطلاب المدارس الرسمية هناك، فيما هو معروف غياب القدرة المادية لدى هؤلاء للانتساب إلى هذه الجامعة. ويبدو لافتاً أن توزع إحدى المنظمات الدولية «كاميرات» على 20 طالباً في الجنوب، وتطلب منهم، ضمن مشروع «دراجتي»، تصوير المشاهد النافرة في المحيط الذي يسكنون فيه. قد يكون ظاهر هذا المشروع تربوياً ويخدم الطلاب والأساتذة، لكنّ «خلفيته استخبارية»، يقول المراقبون.