تصدّر القطاع العقاري بعد الحرب الأهلية (75 _ 90) الاقتصاد اللبناني، وهو اقتصاد ريعي يعتمد على التدفقات الخارجية لرؤوس الأموال (من المغتربين اللبنانيين أساساً). هذا الواقع قائم منذ ستينيات القرن الماضي، ويظهر من خلال بيانات حسابات الدفع. وقد ترافق هذا التحوّل بانخفاض القدرة الإنتاجية الوطنية مع بروز قطاعي الأعمال المصرفية والعقارات.ويتميز القطاع المصرفي بأسعار فائدة هي موضع حسد من جانب كل المصارف العالمية. وقد مثّلت سيولة المصارف اللبنانية الضخمة حاجزاً حدّ من تأثّر هذه المصارف بالأزمة المالية العالمية. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى السياسة المحافظة للمصرف المركزي، وللدور الرئيسي للمصارف في تمويل عجز الدولة عبر فوائد عالية.

وفيما أخذت أسعار العقارات في البلدان المتضررة من الأزمة المالية بالهبوط، ازداد الطلب على العقارات في لبنان، الذي ظهر بعد عام 2005. فأخذت الأسعار بالارتفاع، لتحتل بيروت، بحسب دراسة نفذتها مجلة The Global Property Guide، المركز الـ50 عالمياً والثاني عربياً لجهة ارتفاع سعر المتر المربع المبني للشقق التي تراوح مساحتها بين 120 و150 متراً مربعاً. ويعود ارتفاع الأسعار خلال الفترة الماضية (2005 _ 2009) إلى عوامل عدّة، أبرزها:
- زيادة الطلب الداخلي الممول بقسم كبير من أموال المغتربين اللبنانيين.
- زيادة الطلب الخارجي، وتحديداً من جانب المستثمرين العرب، الذين راحوا يستثمرون في القطاع العقاري مع ظهور عوارض الأزمة المالية على بعض البلاد العربية.
- ارتفاع أسعار المواد الأولية بعد عام 2005.
- محدودية العقارات الصالحة للبناء.
- اعتبار الاستثمار في العقارات ملاذاً آمناً، وخصوصاً مع الأزمة المالية العالمية وأزمة الديون السيادية.
- تدني أسعار العقارات مقارنة مع الأسعار في الدول المجاورة.
لكن الملاحظ أن جموداً طرأ على حركة أسعار العقارات مع بدء الأحداث الإقليمية (الثورات العربية)، وتباطؤ الاقتصاد العالمي، الذي ترك أثره على تدفق رؤوس الأموال، فضلاً عن الوضع السياسي في لبنان، والانكماش الائتماني الذي تتبعه المصارف اللبنانية، وتوقف مصرف لبنان عن دعم القروض العقارية؛ إذ تؤكد أحدث الأرقام الصادرة عن نقابة المهندسين في بيروت وطرابلس تباطؤ حركة القطاع العقاري في لبنان خلال عام 2011 ومطلع عام 2012. وتُظهر الأرقام أن مساحات البناء المرخّصة في عام 2011 انخفضت بنسبة 10.3% لتصل إلى 15.7 مليون متر مربع (شهد كانون الأول 2011 انخفاضاً بنسبة 44.3% مقارنة مع كانون الأول 2010)، وفي الوقت نفسه ارتفعت تسليمات الترابة بنسبة 6.2% لتصل إلى 5.6 ملايين طن في عام 2011. وقد استمر هذا الاتجاه الانخفاضي حتى بداية عام 2012؛ إذ انخفض عدد العمليات في شهر كانون الثاني الماضي بنسبة 1.2% (نسبة إلى كانون الثاني 2011) ليصل إلى 5387 عملية. ويُظهر التحليل أن المستثمرين الأجانب كانوا أكثر الناشطين؛ إذ ارتفعت حصتهم بنسبة 12.8%. وقد ترافق هذا الانخفاض مع ارتفاع حجم العمليات التي زادت بنسبة 17.4% في كانون الثاني 2012 نسبة إلى كانون الثاني 2011 لتصل إلى 562 مليون دولار أميركي.
يمكن ملاحظة عوامل كثيرة تسهم في جمود حركة الأسعار، منها:
أولاً: إن سوق العقارات في لبنان هي سوق متحيّزة (Bias)؛ إذ إن يد آدم سميث الخفية ليست على جدول الأعمال. والواقع أن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد صغير وعدد المقاولين محدود، ما يدفع إلى فقدان خصوصية آدم سميث من سوق مثالي (سعر السوق مفروض على المقاولين نتيجةً للمضاربة). لكن على المدى الطويل، ومع نشوء شركات تجارية، انخفض وزن كل شركة (ظاهرة «يويو» في الاقتصاد الجزئي).
ثانياً: إن استخدام فائض السيولة في المصارف التجارية اللبنانية لتمويل عجز الدولة، وأسعار الفائدة المقدمة من جانب الدولة، والتي تعكس حاجتها إلى التمويل، دفعا المصارف التجارية إلى اعتماد سياسة الانكماش الائتماني، وبذلك زادت الودائع لديها.
ثالثاً: أسهمت التدفقات النقدية من جانب المغتربين بنحو كبير في تشويه العرض والطلب. فمع دخول 7 مليارات دولار في السنة إلى لبنان، ينفق اللبناني جزءاً كبيراً من هذه الأموال في شراء العقارات. لكن مع تطور الأزمة العالمية، انخفضت هذه التدفقات وقلّ الطلب على العقارات عامة، والشقق الكبيرة خاصة، وتركز الطلب على الشقق التي تراوح مساحتها بين 120 و150 متراً مربعاً.
رابعاً: مع تفاقم الأحداث العربية، وخصوصاً الأحداث السورية، اضطر المستثمرون اللبنانيون والعرب إلى خفض الطلب على العقارات في لبنان، وبيع بعضها.
خامساً: إن تفاقم النزاع الدولي مع إيران واحتمال قيام «حزب الله» بردّ عسكري، واستطراداً عدوان إسرائيلي، زاد من مخاوف المستثمرين ودفعهم للاحفاظ بالسيولة التي ترجمت في زيادة الودائع لدى المصارف التجارية (الودائع الخاصة فاقت 298% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في عام 2010).
لكن هذا الجمود في الأسعار ليس مرشحاً للاستمرار، وبحسب نتائج دراستنا الإحصائية، فإن أسعار الشقق التي تراوح مساحتها ما بين 120 و150 متراً مربعاً، ستستقر في بداية عام 2012 لتعاود الانخفاض في النصف الثاني من هذا العام (نحو 15%). أما الشقق الكبيرة (أكثر من 150 متراً مربعاً) فستشهد حركة ملحوظة نتيجة المرونة في أسعارها.