يقف موظّف البلدية وحده في وسط المنطقة الصناعية، المعروفة بوادي الفنار، محاولاً فتح المجرور. ثيابه تدل على أنه شرطيّ تابع لبلدية «بيت مري»، فيما غاب عن المكان أي موظف من بلديتي الفنار أو عين سعادة، المفترض أنهما معنيتان بالأمر. والطريف في الأمر، أن الشرطي لم يكن يعمل بناءً على طلب من «بلديته»، بل «بناءً على طلب شخصيّ من الموظفين في المعامل المحيطة بالمكان، لأن بلديتي الفنار وعين سعادة لم ترسلا أحداً لمعالجة الموضوع» يقول.
هذا المشهد يكاد يكون يومياً بالنسبة إلى سكان منطقة «العمارية ــ الفنار»، بالإضافة إلى كل من يمرّ على أوتوستراد الزلقا ــ جديدة ــ برج حمود؛ إذ تعاني المنطقة التي تشغل المساحة ما بين «العمارية ــ الفنار» و«رومية» من تلوّث نهر الموت، الذي أصبح المكبّ المفضل لأصحاب المسالخ. ويعانون أيضاً من تلوّث طريق الوادي لدى إغلاق المجرور بفعل تراكم النفايات في النهر. هكذا يتحوّل جزء من الطريق إلى نبع من الدم والأشلاء كل مرة تحصل فيها عملية الذبح في المسالخ الستة التي تتوزع على منطقتي عين سعادة والفنار.
السبت، الأحد، الثلاثاء والخميس، هي أيام الذبح المحدّدة لدى المسالخ الستة، بحسب أحد مسؤولي الصحة في بلدية جديدة. ويؤكد الأخير أن «المسالخ لا تتقيّد بالشروط الصحية المناسبة، ومنها مثلاً استعمال كمية من المياه مضاعفة ثلاث مرات أكثر من كمية الدم في عملية التنظيف وعدم رمي الأحشاء في مجرى النهر. لكن أصحاب المسالخ يتجاهلون هذه التعليمات ويغلقون المجرور المخصص للصرف الصحي في المنطقة، في ظلّ غياب الرقابة على عملية الذبح؛ لأنها تحدث خلال الليل، وتجاهل البلديات المعنية، لأن منطقة الجديدة هي المتضرّرة فعلياً».
يرفض أحد أصحاب المسالخ المعنية هذه «الاتهامات»، مؤكداً أن الجميع يتقيّد بالشروط الصحية المطلوبة. لكن للتأكد من ذلك، يفترض أن تقوم بلديتا عين سعادة والفنار بمراقبة المسالخ، وهذا ما لا يحصل وفق كثيرين. بل إن البلدية الوحيدة التي تحاول خفض الضرر، هي بلدية الجديدة، وفي بعض الأحيان يُستعان، بشكل شخصي، بعناصر شرطة بلدية بيت مري؛ لأن المنطقة كانت تابعة لها قبل الانتخابات البلدية الأخيرة.
بلدية الجديدة تشكل دورية كل يوم، تتوجه نحو المجارير لكي تنظفها من أحشاء المواشي والدم، وتفتح المجرى أمام بقايا الذبح لتلوّث نهر الموت وصولاً إلى البحر، ولكي تفوح مرةً أخرى رائحة الموت الشهيرة في النهر وتباشر الحياة مجراها الطبيعي.
يؤكد رئيس البلدية، أنطوان جبارة، أن مراقبة المسالخ تتعدى صلاحياته «المسالخ جميعها متمركزة في منطقتي الفنار وعين سعادة، وليس لدينا سلطة مباشرة عليها، كل ما في مقدورنا هو تنظيف المجرور في الصباح. ومن المفروض أن تساهم البلديات المعنية بمعالجة المشكلة، فعليها أن تراقب المزارع وتتأكد من تطبيقها الشروط الصحية المطلوبة».
لكن بلدية الفنار تعدّ نفسها غير معنية بعملية التلوّث؛ لأن «المسالخ المتمركزة في الفنار تطبّق جميع الشروط الصحية والمراقبة عليها شديدة، وإذا دخلت إليها تظن نفسك في قصر، ما يعني أن 90% من المشكلة لا تعنينا»، يقول رئيس بلدية الفنار كمال غصوب. وفيما يؤكد أن عملية التلوّث خارجة عن نطاق بلديته، يرمي بالمسؤولية على بلدية عين سعادة؛ لأن «مسالخها هي التي لا تتقيد بالشروط الصحية»، وعلى وزارة الأشغال؛ لأن «الموضوع أساساً خارج عن نطاق البلديات. وزارة الأشغال لم تطبق يوماً المشروع المخطط للطريق التي تؤدي إلى المسالخ؛ فالطريق متمركزة على مجرى النهر، وكل مرة تتساقط الأمطار، يبتلع النهر الطريق ويجرف كل شيء».
غصوب يؤكد أن بلديته تمارس مهمتها الرقابية في الكشف على عملية الذبح والتأكد من شرعيتها، «تُشكل الدورية كل نهار جمعة، وتكشف على المسالخ للتأكد من أنها تتقيد بالقوانين كاملاً». لكن الذبح لا يحصل نهار الجمعة، بل أيام الثلاثاء، الخميس، السبت والأحد. أي إنه عندما تصل لجنة الفنار إلى المسالخ، يكون الذبح قد حصل، وبلدية الجديدة نظفت المجرى، وتكون المزارع قد نظفت مسالخها واللحوم التي ذبحت على مدار الأسبوع وصلت إلى المستهلك اللبناني!
في عين سعادة لا نسمع كلاماً مختلفاً. رئيسة البلدية أورور إبراهيم تؤكد بدورها أن «بلديتنا هي الوحيدة التي تلتزم الشروط وتقوم بالمراقبة دائماً!». لكن عدداً من الموظفين في المعامل المجاورة أكدوا أنهم لم يلحظوا وجود مراقبين من البلدية في المنطقة إلا يوم أتت شرطة البلدية لكي تطرد «الأخبار»؛ لأنها بحسب أحد أعضاء الشرطة كانت تصوّر «والتصوير ممنوع من دون إذن مباشر من رئيسة البلدية».
تعترف إبراهيم بأن مسؤولية تنظيف المجرى تقع على بلديتها، إلا أنها «لا تملك الإمكانات المادية الكافية لتولي المهمة، على عكس بلدية الجديدة التي تقدم لنا خدمة كبيرة من هذه الناحية». وتلفت إلى أن عمر بلدية عين سعادة سنتان فقط، وكانت المنطقة قبل ذلك تابعة لبلدية بيت مري «التي لم تضرب ضربة في المنطقة. نحن نحاول حلّ مشاكل عمرها أكثر من 40 عاماً، والكلّ يتهمنا ويحاول تحميلنا المسؤولية رغم قلة إمكاناتنا ومواردنا». إبراهيم ترى بدورها أن الحلّ الأفضل هو «تدخل وزارتي الطاقة والأشغال لمساعدتنا في حلّ الأزمة».
هكذا، تتقاذف جميع البلديات المعنية المسؤولية، أو تحملها للوزارات. فبلدية عين سعادة تُشغل بأمور أهم مثل «ترقيع الطرقات وترميمها»، بحسب رئيسة البلدية، وبلدية الفنار تُشغَل ببناء مبنى جديد لها، والمسالخ ليست في نطاق بلدية الجديدة. من المسؤول، في هذه الظروف عن الحدّ من تلوّث النهر؟
«الكلّ مسؤول»، تقول قائم مقام المتن مرلين الحداد، فـ«باستطاعة كل بلدية مراقبة عملية الذبح على الأقل، كذلك على وزارة الزراعة المراقبة؛ لأنها هي المسؤولة عن المزارع، وتقع بعض المسؤولية على لجنة الصحة التي تكشف على المزارع وتسلّم تقريرها. وقد تكون المسؤولية الأكبر على عاتق وزارة الزراعة؛ إذ ينصّ القرار رقم 949/1 الصادرعنها في 26/10/2011، على إعطاء مهلة ستة أشهر للمسالخ المنشأة قبل صدور هذا القرار لإجراء التصحيح وتسوية أوضاعها، وفي حال عدم التزام المسالخ تُقفَل». ويحدّد في المادة الرابعة الشروط، من قبيل «توفير التمديدات والأنابيب والصرف الصحيّ، وتوفير مراوح الشفط بأعداد كافية، وضرورة توفير كمية وافية من المياه مع أنابيب كافية لتوزيع المياه وسهولة التنظيف، ووجود طبيب بيطري يكشف على عملية الذبح ويتأكد من شرعيتها»، وغيرها من الشروط الصحية التي لا تتبعها معظم المسالخ المعنية.



إنذار أخير!

على الرغم من مرور تسعة أشهر على صدور قرار وزارة الزراعة الرقم 949/1، القاضي بإعطاء مهلة ستة أشهر للمسالخ المنشأة قبل صدور هذا القرار لإجراء التصحيح وتسوية أوضاعها، وفي حال عدم التزام المسالخ تُقفَل، تستمر جميع هذه المسالخ بالعمل.
وفي هذا الإطار يقول رئيس دائرة الثروات الحيوانية في جبل لبنان، د. رفعت غانم إن وزارة الزراعة كشفت على المسالخ في وادي الفنار، ووجهت إنذاراً إلى أصحابها تطلب منهم فيه تنفيذ المعايير الصحية المفروضة أكثر من مرة. ويؤكد أنه «إذا لم تطبق المعايير بعد المهلة المحددة لهم، فستُغلَق».
ويلفت غانم إلى عدم وجود قانون يحدد مكان رمي النفايات، «ليست من مسؤوليتنا كوزارات أو من مسؤولية المزارع تحديد أو توفير المكبّ، بل يجب على بلديتي الفنار وعين سعادة إنشاء محطة تكرير للصرف الصحي، ومن مسؤولياتهما أيضاً متابعة الأمر؛ لأن الذبح يجري داخل نطاق مناطقهما».