في قصر الأونيسكو، كانت الدولة كلها حاضرة: موظفو الوزارات والإدارات العامة، معلمو وأساتذة المدارس الرسمية، متعاقدون ومتقاعدون من أسلاك الدولة المدنية والعسكرية... لم تعد هيئة التنسيق النقابية حركة نقابية صرفاً، فقد أصبحت كالحزب. الأهداف واضحة في كل مفصل مطلبي. الخطوات مدروسة للوصول الى تحقيق المطالب. التحركات تضم كل الفئات المنضوية في الحزب. فقد اعلنت هيئة التنسيق النقابية في مؤتمرها النقابي أمس، انها «حزب الدولة»، وللحزب مطالبه: تحويل سلسلة الرتب والرواتب الى مجلس النواب خلال 10 أيام، من دون تقسيط، ومع تعديل للدرجات وإنصاف المتقاعدين والمتعاقدين والأجراء جميعاً. وطبعاً إبقاء الضرائب التي تطاول الأثرياء وإلغاء تلك التي تطاول أصحاب الدخل المحدود. وإلا فسيتم شل الدولة مؤقتاً في مواجهة من يدفعها الى الاحتضار. أما الحكومة، التي من المفترض أن تكون السلطة التنفيذية في الدولة، والتي من المفترض أن تعمل على دعم «حزب الدولة» وتطويره وتمتينه، فقد أعلنت عن نفسها في غير مناسبة أنها «حزب المصالح الخاصة». فقد رفض أكثر من نصف أعضاء الحكومة أن يتم استثناؤهم من الزيادات المقترحة على سلسلة الرتب والرواتب.
الـ 12 مليوناً و937 ألف ليرة شهرياً لا تكفي الوزراء، رغم أن معظمهم من أثرياء لبنان وأصحاب البنوك والمصانع والاستثمارات الكبرى، وفيما أقروا زيادات تصل الى ستة ملايين ليرة شهرياً لكل منهم ضمن السلسلة الجديدة، اعتبروا أن الزيادات الهزيلة التي ستلحق بأعضاء «حزب الدولة» ستؤدي الى انهيار الاقتصاد.
لم تتوقف القضية عند هذا الحد، اذ جاء في متن قرارات الحكومة أن الزيادة التي ستلحق بموظفي القطاع العام والمعلمين (...) والفروقات، سيتم تقسيطها على 4 سنوات. ماذا يعني هذا التقسيط؟
يشرح الخبير الاقتصادي كمال حمدان للحضور: «إن اقرار سلسلة الرتب والرواتب يردم جزءاً من الفجوة الحاصلة بين التضخم ورواتب القطاع العام. فالتضخم الحاصل منذ عام 1996 حتى عام 2012 وصل الى 110 في المئة، فيما لم تلحق بالرواتب سوى زيادة يتيمة ومقطوعة بقيمة 200 ألف ليرة عام 2008». أما اذا جرى تقسيط السلسلة وفق اقتراح الحكومة، فهذا ما سيحصل وفق حمدان: «احتسبنا حجم التضخم الحاصل في السنوات الأربع الماضية، وتبين انه وصل الى 25 في المئة، الا أن السنوات الأربع المقبلة سيرتفع فيها حجم التضخم بسبب زيادة نمو الدين العام وخدمته، زيادة العجز، تراجع رغبة المصارف في إسناد الدولة، تراجع التحويلات... وبالتالي من المتوقع ان يرتفع حجم التضخم 40 في المئة». بذلك، يمكن القول إنه خلال سنوات التقسيط، سيأكل التضخم الزيادات المرصودة.
الأكيد أن السلسلة مدخل الإصلاح في القطاع العام، لكن الحكومة ترفضها، رغم أن نصف وزرائها تقريباً يطلقون على أنفسهم لقب «إصلاحيين» (والعونيون بالمناسبة رفضوا بالإجماع استثناءهم من «الزودة» في الجلسة الحكومية الشهيرة). أسباب الرفض وفق رئيس رابطة اساتذة التعليم الثانوي حنا غريب ليست عبثية: يرفضون تعزيز التعليم الرسمي ومجانية التعليم لمصلحة المدارس الخاصة. يرفضون اعتماد الكفاءة والجدارة في التوظيف في القطاع العام، دعماً للقطاع الخاص. يرفضون اصلاح ادارة الدين العام لمصلحة جيوب حفنة من الأثرياء. يرفضون الاصلاح النقابي ويهددون بقوة المال والسلطة لضمان عدم مواجهتهم.
هذا من جهة الحكومة، أما الهيئات الاقتصادية التي تمثل أصحاب العمل، فهي أساسية في «جوقة» الرافضين. ما علاقتها برواتب القطاع العام؟ أم أن أعضاء هذه الهيئات يرفضون السلة الضريبية التي «ستموّل» السلسلة لكونها تطاول في بعض بنودها أرباحهم من الريوع المصرفية والعقارية؟
تتذرّع الهيئات الاقتصادية بأن «السلسلة كارثة على الخزينة»، لكن «ماذا عن الهدر والفساد وسرقة المال العام واغتصاب الأملاك البحرية والنهرية والتهرب من دفع الضرائب واتفاقات التراضي والصفقات والتهريب في الجمارك وعدم دفع فواتير الكهرباء والهاتف؟ تتحمل الخزينة هذه المبالغ ولا تقوى على احتمال زيادة رواتب الموظفين وأصحاب الدخل المحدود؟» يسأل غريب.
الحكومة جاهزة للخضوع لطلبات الهيئات الاقتصادية، يؤكد غريب. «فبعض أعضائها يحضر اجتماعات الحكومة واجتماعات الهيئات الاقتصادية في آن واحد، ويتولّى نقل الرسائل والضغوط، بدليل ما حصل في جلستي مجلس الوزراء في 5 و6 أيلول: من إقرار لبدعة غير مسبوقة في تقسيط الزيادة وفروقاتها معاً على مدى 4 سنوات. ومن اقتطاع 3% من رواتب أساتذة التعليم الثانوي، واقتطاع 50% من نسبة الزيادة المستحقة للأساتذة والمعلمين المتقاعدين بمعاش تقاعدي أو بتعويض صرف. وزيادة 2% على المحسومات التقاعدية.
رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة محمود حيدر أكد ما قاله غريب. ورأى أن ما تتذرع به الحكومة لجهة تأمين واردات لتغطية تكاليف السلسلة، ما هو إلا حجج تستخدمها لتجاوز مأزقها في تأمين واردات لتغطية نفقاتها الإضافية، ففيما لا تتجاوز كلفة السلسلة 1600 مليار ليرة، فإن النفقات الإضافية تقدّر بأكثر من 13 ألف مليار ليرة. والحكومة بذلك، تستغل موضوع السلسلة التي لا تتجاوز نسبتها 11% من قيمة النفقات الإضافية، لوضع العاملين في القطاع العام في مواجهة مواطنيهم تحت ذريعة فرض الضرائب والرسوم.