رحيل | يصعب تحديد الفكرة التي تستحق أن تتصدّر موضوعاً عن عاصم سلام. هل يكون المرض والموت اللذان حرماه شغفه بالحياة؟ أم نضاله المعماري والنقابي؟ عائلته وأصدقاؤه أصرّوا على نقل تفاصيل شخصيته إلى الورق. أرادوا إيصال طاقته الإيجابية والثورية إلى الناس، الذين حرص عليهم طيلة حياته، حين رفض أن يضع عمارته في وجه النسيج الاجتماعي. أرادهما متماهيان، ونجح. عَكَسَ ذلك في كل تفاصيل حياته. كأنه أعاد إحياء ساحة البرج، التي قضت عليها «سوليدير » في بيته. شرّعه للجميع. حزن منزله على فراقه من دون مغالاة في البكاء. لم تنتهك عائلته وأصدقاؤه حرمة الموت حتى في ضحكاتهم، الذي يأتي بمثابة فاصل. صدّقوا أنه مات. صدّقوا أكثر أنه باقٍ في الأحياء والأبنية التي صممها، فألفوا الغياب المشروط هذا.
يجعلك بيته عاجزاً عن إغماض عينيك. تريد أن تلاحق جميع التفاصيل حتى لا يفوتك أحدها. عرف ذلك، ورغب في تحويله إلى متحف، بحسب ابنه علي. تسأل أفراد الأسرة عن الشخص الأجدر للحديث عنه. يشيرون إلى إيلي نجم وجاد تابت. الأخير في فرنسا. أما نجم، فكان يواجه يومه الأول من دون سلام، هو الذي اعتاد العمل معه منذ عام 1977. كان عاجزاً عن استجماع أفكاره. تخونه قواه بين الحين والآخر. قبل أن يغادر الحياة، خاطبه سلام: «لن أستطيع أن أصرخ في وجهك بعد اليوم». فهذا الثنائي اعتاد التباين في الآراء.
غلب سرطان البنكرياس سلام في اليومين الأخيرين فقط. قبل ذلك كان ميزان القوى لمصلحته. خانته شيخوخته. في ما يتعلق بالمرض والموت، هذا هو القدر المسموح به فقط. فهناك لدى العائلة والأصدقاء ما هو أهم من ذلك للبوح به.
يحكي نجم عن عيش سلام الحداثة وتفاعله مع الحاضر. «كان قادراً على استشراف المستقبل، والركون إلى جذوره في وقت واحد. يتحدث عن أصالته وكونه أكبر معارض لسوليدير». يقول إنه «رفض مغادرة بيته في المصيطبة خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. كان نضاله ضد إسرائيل راسخاً، كما إيمانه بالقضية الفلسطينية. ورغم انفتاحه الكبير، تعلق بالأرض»، يعلق صديقه : «شكله انكليزي وروحه عربية »، إذ يصفه أصدقاؤه بـ «الجنتلمان الإنكليزي».
اختارت عائلته أن يُصلّى عليه في جامع الخاشقجي، الذي صممه. ويشرح نجم أن عملية البناء كانت تستدعي تلبية الوظيفة الدينية ضمن التراث الاسلامي، مضيفاً إن «سلام كان يواجه تحدياً للخروج بتصميم عصري يحاكي زمنه». وكانت النتيجة «جامع غير شكل». جامع لم يعرف القبة الحديدية التقليدية، واستعار عناصر العمارة التراثية في قالب حداثي معاصر. يملّ نجم من الحديث عن العمارة ليعود إلى عاصم الإنسان، «الثورجي الذي رفض الإغراءات وفضّل مصلحة بيروت رافضاً الوقوف مع سوليدير». ويعلق: «تستطيعين اليوم رؤية الجامع والكنيسة من دون ناسهما». يتابع «كان رجلاً متجدداً وصاحب موقف».
تتكرر الصفات، لكنها تحمل في كل مرة بعداً جديداً. لدى السؤال عنه، يبدو أصدقاؤه كأنهم يحاولون استرجاع بيت شعر نادر. يبتسمون ويتساءلون إن كان الوقت يكفي للحديث عنه.
مرّ العمر ولا يزال تلامذته يتذكرون عاصم الأستاذ والصديق الذي كان يدعوهم دائماً إلى بيته. ويلفت خليل خوري إلى أن زوجة سلام، فاسيليكي لايوس، كانت أول امرأة تدرس الهندسة المعمارية. يتحدث كيف كان يدفع تلاميذه إلى الأمام، ومنهم جاد تابت المقيم حالياً في فرنسا. قال له: «يجب أن تشعر باللذة في كل شيء تقدمه». كسر سلام الحاجز بينه وبين طلابه، في وقت «كنا نخاف فيه المعلم».
لم يكن المهندس عبد الحليم جبر تلميذه، بل تعرّف عليه في النقابة التي كان ناشطاً فيها حين تولى سلام رئاستها. يقول: «صار المهندس يشعر بأن لديه مرجعية». يتذكر مؤتمر القدس الذي نظمه مع مجموعة عمل ضمت خمسة أشخاص، وشهد اللقاء الأول بين محمود درويش ومارسيل خليفة، بهدف توعية المهندسين على تهويد القدس من خلال المستوطنات والتخطيط الممنهج لعزل المدن عن بعضها البعض. ويشرح أن عاصم كان ضمن أولئك المهندسين الذين ارتأوا وضع هوية معمارية للبلدان العربية ما بعد الانتداب، مثله مثل هنري إده ورفعت الجادرجي. ويلفت إلى أنه «عرف كمعماري كيف يعكس الوقت».
من جهته، يلفت المهندس نديم نمّور إلى أن سلام كان الوحيد الذي اقترح إعادة مشروع القرى والمدن المدمرة وفق تنظيم مدني على غرار أوروبا، التي أعادت تنظيم مدنها بعد الحرب العالمية الثانية وفق مشروع مارشال على نمط أحلى مما كان. يعدد إنجازات الرجل، منها ترميم آثار دير القمر وقصر بيت الدين ومقر المطرانية فيها. ويشير إلى أنه كان يعد مخططات توجيهية في كافة المناطق اللبنانية، بهدف المحافظة على البيئة والتراث. ويضيف «استطاع تحويل العمارة إلى عامل إضافي في محيطها».
رفض سلام أخيراً زيادة عوامل الاستثمار. يعلق نجيم: «كل ما هو خطأ يرفضه سلام». لا تعكس ملامح سلام العابسة داخله. بدأت علاقة مالك مروة به من خلال بناته، وقرر إطلاق اسم «smiley» (مبتسم) عليه، لأنه لم يكن يبتسم. ولبسه الاسم.
مات «المبتسم» فجر أمس تاركاً وراءه سيلاً من تصاميم ترسم بيروت كما أحبها سلام، وكرهها الآخرون. قال كلّ شيء ومشى.