لو لم تكن أليس الشبطيني قاضية، لنجحت بالتأكيد في العمل كمخرجة مسرحية. صحيح أننا لا نعرف شيئاً عن اهتماماتها الثقافية والفنية، إلا أن فصول عملها الأخير، الذي وصف أمس بالمهزلة، تتوالى في تصاعد وصل إلى الذروة مع ظهور أبو علي محمد على خشبة المسرح. بوجه أبيض كوجه مولود جديد، وصل الرجل إلى الرصيف المقابل للمحكمة العسكرية. ذهبت تلك الأيام التي كانت فيها الشمس تلوّح بشرته، وهو يتنقّل بين الأودية وفي الحقول، زارعاً عبوة هنا، ومشاركاً في عملية عسكرية هناك. كان ذلك في عام 1986. أصيب المقاوم الشاب خلال مشاركته في عملية في «جبل صافي» ضد جيش غريب كان يحتل أرض وطنه، ففقد بصره. غاب التلميذ الثانوي، الذي كان متفوقاً في الرياضيات، عن صفوفه. انصرف إلى العمل، ليعيل عائلته الصغيرة. ورضي، كما بقية زملائه المقاومين بما اختاره لنفسه. لم يطلب شيئاً من أحد مقابل التضحية التي قدّمها للبنان. بل هو لم يقل لأحد إنه قدّم شيئاً. تراجع إلى الكواليس الخلفية، ولم يطمع حتى بدور الكومبارس.
لكنهم لم يتركوه في حاله. هناك من يصرّ على إعادة إحياء جراحه. من يصرّ على تذكيره باليوم الذي فقد فيه بصره على أيدي عملاء إسرائيل في لبنان. لا يريدون لفرحة التحرير في عام 2000 أن تمحو ما سبقها من آلام. بعد أكثر من عشرين عاماً، أمضاها الرجل في الظلّ، اضطر أمس إلى النزول مجدداً إلى الساحة. المقاوم الذي لا تعرف الدولة اسمه، ولا يزال السجال جارياً حول ما إذا كان عمله سيدرج في كتاب التاريخ، وقف مع زملائه المقاومين على الرصيف المقابل للمحكمة العسكرية لكي يقول: أريد العدالة.
لا انتقام في حديث الرجل. لا شيء أكثر من رفض مساواته بأشخاص ارتضوا بيع وطنهم لإسرائيل. رفض أن يكون في كفة واحدة مع متعاملين، سلّموا أسرار الدولة لعدوّها، وكشفوا عن منازل مقاومين متسبّبين بإزهاق أرواح مئات اللبنانيين. لا شيء أكثر من المطالبة بمحاكمة عادلة، وليس تسهيل الفرار منها.
هذه هي المهزلة. بل «الحقيقة الصافعة»، إذا استعرنا وصف رئيس تحرير «الأخبار»، الراحل جوزف سماحة، لطريقة تعامل الدولة مع الأسرى المحرّرين من السجون الإسرائيلية. يومها كان الأسرى يطالبون بعمل، واليوم هم يطالبون بالعدالة. نستعير سماحة: «إذا كان هذا (العدالة) أبسط حقوق المواطن على دولته، فكيف إذا كان المواطن المعني قد ساهم، إلى هذا الحد، في إعطاء دولته معنى».
إنها الحقيقة الصافعة، التي جعلت المعترضين على قرار القاضية الشبطيني يقتصرون على فئة المقاومين. هؤلاء الذين تُركوا وحدهم في الميدان ليحرّروا الأرض، ووجدوا أنفسهم وحيدين أمس، يطالبون بالعدالة. مواطنة واحدة من عكار جاءت لتصرخ معهم، انضمّت إلى الأسيرة المحرّرة كفاح عفيفي ليصبح عدد النساء اثنتين. هل هي رأفة النساء حلّت على العملاء؟ ألهذا منح المعتصمون أمس الشبطيني صفة «رئيسة محكمة الرفق بالعملاء؟». رفقت بهم حتى أمكننا تخيّلهم جالسين أمس خلف شاشة التلفزيون في بيوتهم التي اشتروها بأموال إسرائيلية. كانوا يشاهدون المقاومين، الذين لا يزالون يركضون خلف لقمة عيشهم، يطالبون بالعدالة.
هل يعرف من تابع الخبر العابر، أمس، على بعض شاشات التلفزة، من يكون أحمد سرور؟ الشاب الضاحك الذي كان يتنقّل بين زملائه، ساخراً من السبب الذي دفعه إلى الشارع، هو أحد أربعة أشقّاء أمضوا ربيع عمرهم خلف القضبان في إسرائيل. «اسمها فلسطين» يصحّح. أحمد أمضى 13 سنة في الأسر، وشقيقاه عباس وعبد الحسن أمضيا 14 عاماً، أما صغيرهم خليل فأمضى ثلاث سنوات في معتقل الخيام.
أحمد، وإخوته، ورفاقه، الذين سرّهم خبر اكتشاف العملاء من قبل الدولة، باتوا يشعرون اليوم بأنها لا تمثّلهم. رغم ذلك، رفعوا الصوت أمس مطالبين بإحالة الشبطيني إلى التقاعد المبكر ومعرفة من يقف وراءها، لأنه «كان من الأجدى لمن منح الشبطيني الغطاء السياسي لإكمال مهمتها أن يحافظ على سيادة الوطن واستقلاله».
6 تعليق
التعليقات
-
.....سأقول في التحقيق أن عفا فنا عهر و تقوانا قذارة وان نضالنا كذب و أنه لا فرق ما بين السياسة و الدعارة
-
حامي الدستوروعم يغلي , ورح يتبخر
-
بإفراجكم عن الخيانة سجنتم بل صفعتم الأمانة "التعاطف مع الخيانة" ظاهرة روّج لها كثيراً في المسلسلات التركية وماشابه مؤخراً، أما أن يكون هذا التعاطف ليس مع أي خيانة بل خيانة الأوطان وأن لا تكون مجرد مسلسلاً بل واقعاً أفضى إلى "إخراج" عملاء من خلف قضبان، تسببوا هم بزج المئات خلفها فهذا ما يستدعي إعادة النظر بمعايير العدالة في لبنان.. أما في غيره من الأوطان هكذا تصرف يفجّر ثورة وبركان.. ما حدث في لبنان ليس خطأ بل خطيئة وعارٌ كان يهدف إلى إرضاء الشيطان.. ما حدث في لبنان، سيرفض التاريخ تسجيله، وتسجيل معه صمت الكثيرين من "الأعيان".. لعلّ من أبلغ المفارقات في لبنان اليوم: التعاطف مع العملاء وتقاذف التهم بحق من رووا أرضهم بالدماء.. لا يزال صوت إبنة الشهيد ودموعها في ذاكرة العديد منا وهي تقول:"عندما حضنتني بالامس يا ابي قلت لي وداعا و قبّلتني لم تعد صباحا ما ايقظتني ما حضنتني ما قبّلتني".. كل ما كان يواسي هذه الطفلة أن والده بطلٌ حرر الأرض وفدى الوطن بدمه، كيف ستحتمل هذه الطفلة رؤية قاتل أبيهاو إخوته يرتع في حَرَم وطن حُرِم والده منه إيثاراً؟؟ كيف لعيون من حرر وشرّع الخيانة أن تلاقي عيون هذه الطفلة الدامعة؟؟ إذا رأيت الفضيلة تقتل تغتال كل يوم، والرذيلة ألبست ثوب العفّة والطهر فأهلاً ومرحباً بك في لبنان..
-
هيدي تبع ميشيل سليمانهيدي تبع ميشيل سليمان
-
المخلصون تسربلوا بدمائهم والخائنين تسوروا البنيانا. لم اجد اجمل من هذا الوصف لواقع الحال في هذه الايام. واْجد في قول ابو جهاد"خليل الوزير"إذا راْيت الجبان في الامام والشجاع في الخلف فاعلم ان في الامر خيانة.
-
محاكمة!هذه الدولة لن تكتفي باطلاق سراح العملاء، قد لا نستغرب يوماان تحاكم المقاومين انفسهم والتهمة بكل بساطة هي دفع اسرائيل لشن حروب على لبنان والتسبب بمقتل مدنيين، ومنظمات حقوق الانسان المجمدة انشطتها في اكثر من بلد بتهمة انتهاك حقوق الانسان جاهزة للادلاء بشهاداتها في هذا الموضوع.