لم تُغتَفر خطيئة علي فقيه حتى الآن، أو ربما لم ينته القصاص بعد. فقد أقفل المحل واعتذر صاحبه بعدما أتلف البضاعة ـــــ الفتنة. ليس هذا فحسب. كذلك أوقف مدير المحل ومالكه، لكن ذلك لم يكف. فالخطوات السابقة لم تهدّئ من روع الغيارى على الدين. حوّلوا أبوابه كادرات لصور الرئيس بشير الجميل. وذيّلوها بعبارات الانتصار والتحدي بحبر سيبقى ماثلاً على باب المحل حتى حين. وفوق ذلك، أمطروه قبل يومين برشقاتٍ نارية كسرت زجاج أبوابه.الخطوات التصعيدية، التي يقوم بها مجهولون، وضعها كثيرون في إطار ردة فعل «مفهومة» على تدنيس مقدسات مسيحية. غير أن المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار» من مصادر أمنية رفيعة المستوى، أكّدت أن البضاعة المدموغة برمز الصليب وُجدت في أكثر من متجر في فرن الشباك. كما وجدت أيضاً، في محالّ أخرى في مناطق لبنانية مختلفة، محدّدة منطقتي عين الرمانة والدكوانة، لكن المصادر الأمنية ذكرت أنه جرت لفلفة الموضوع بعد تلف البضاعة، لافتةً إلى أن بعض البائعين كانوا من الطائفة المسيحية أيضاً، لكنهم لم يكونوا منتبهين (بدورهم) إلى وجود رمز الصليب على الأحذية. أما الأعمال الانتقامية التي تستهدف «البيغ سايل»، فرأت المصادر نفسها أن خلفياتها طائفية. فلو كان البائع يدعى جورج، بحسب المصادر، لكانت المسألة قد انتهت وكأن شيئاً لم يكن. وكشفت المصادر الأمنية أن المشكلة تكمن في الموزّع الذي لم تعرف هويته بعد.
هذه المعلومات، التي تقاطعت بين أكثر من مسؤول أمني، نفاها رئيس بلدية الدكوانة أنطوان شختورة، معرباً عن دهشته لسماع الخبر. وقد أكد شختورة لـ«الأخبار» أنه لا وجود لأي بضاعة عليها رمز الصليب في أي من محالّ الدكوانة، مشيراً إلى أنه كان سيبادر فوراً إلى فتح تحقيق إذا ما ثبت ذلك.
هذا النفي المطلق لوجود «مسيحي يبيع هذه البضاعة»، على الرغم من تأكيدات المصادر الأمنية ومن معرفة سياسيين مسيحيين، إضافة إلى الحملة الإعلامية، والانتقامية التي شنّت ولا تزال على صاحب محل تجاري لا يفكر إلا بالربح، تكشف حجم الهوة التي يعيشها اللبنانيون اليوم. والسجالات التي انطلقت منذ اليوم الأول للمشكلة تشير إلى أن تداعيات القضية مرشحة للتفاقم إذا لم يبادَر إلى احتوائها. فقد انقسم الناس بين مؤيد للحملة التي شنت ضدّه، فيما رأى آخرون أن استمرار توقيفه إجحاف بحقه لأنه لم يرتكب جرماً مقصوداً يستدعي كل هذا العقاب. وفي سياق الأخذ والرد، ترى نسرين ضرورة إبقاء علي فقيه في السجن، مستندة برأيها إلى أن «الحياة سلف ودين»، فـ«هم (وتقصد المسلمين طبعاً) سلّفوا واليوم يحصدون». تضيف «العين بالعين والسن بالسن» وتعود بالذاكرة الى الحادثتين اللتين شغلتا البلد. الأولى عندما اقتحمت مجموعة تنتمي إلى الطائفة المسلمة منطقة الأشرفية وكسرت واجهات المحل «احتجاجاً على نشر صور كاريكاتورية مسيئة لـ(النبي) محمد في الدانمارك»، رغم أنه لا دخل لأبناء الأشرفية بالدانمارك. أما الثانية، فجاءت على خلفية عرض سكتش في برنامج بسمات وطن ظهر فيه ممثل مقلّداً السيّد حسن نصر الله». تضم إليان صوتها إلى صوت نسرين، فتؤكد أن الطائفية ملح لبنان. فبحسب الطالبة الجامعية «الطائفية متجذّرة في نفس كل لبناني وإن ادّعى بعضهم عكس ذلك، مشيرة إلى أن ذلك يظهر عندما تحصل أدنى مشكلة لتستفيق معها هذه النزعة. تسأل إليان: «إلى متى سنبقى مكسورين؟»، مشجعة «شبابنا للتصدي ضد شباب هيديك المنطقة». من جهتها، تتوجه باميلا بالحديث إلى مالك محل «البيغ سايل» فتنصحه بأن «يروح يبيع بالضاحية، مش عنا».
في المقابل، تبرز فئة من المدافعين والرافضين لتضخيم الموضوع. يرى مناصرو هذا الرأي أن «العودة عن الخطأ فضيلة» بحسب قول جوليات مراد، فتؤكد أن على السلطات القضائية إطلاق سراحه نظراً إلى حصول الفعل من غير قصد، مشيرة إلى أن «المشكلة لا تحل بمشكلة أكبر». إذا تفاقمت ردود الفعل فإنها ستؤدي الى فتنة أكبر. رأي جوليات ينسحب على عدد غير قليل من أبناء فرن الشباك. إذ يُجمع هؤلاء على أن كل شخص سينظر إلى ما حصل انطلاقاً من انتمائه الحزبي والسياسي. فمعظم المسيحيين المناصرين للتيار الوطني الحر سيبرّرون لعلي بيعه البضاعة التي دخلت محله عن طريق الخطأ. في المقابل، سيرفض القواتيون ومناصرو أحزاب 14 آذار المسيحيون أي تعاطف معه، مطالبين بإنزال أشد العقوبات بحقه من دون الموافقة على أن تمر الأمور مرور الكرام.
الانقسام نفسه ينعكس على أصحاب المحالّ المجاورة لمحل «البيغ سايل» في سوق فرن الشباك. وفي مقارنة يجريها الرجل الذي يملك محلاً في السوق منذ أكثر من خمس عشرة سنة، يخلص الى الاستنتاج أنه يجب إعادة فتح المحل وعدم القطع برزق صاحبه، فالخطأ ممكن أن يحصل مع أي شخص. صاحب محل آخر، يوجّه اللوم له متهماً إياه بالتواطؤ، وإن كان بطريقة غير مباشرة. وهكذا دواليك، يتعمّق الانقسام في الموقف أكثر فأكثر حيال صاحب المتجر الذي لم يرتكب ذنباً، إلا أنه لم يدقق في أسفل الأحذية المدموغة بشعار الصليب.
في الانتظار، لا يزال مالك المحل ومديره موقوفين في نظارة قصر عدل بعبدا، بناءً على إشارة القاضي جوزف صفير بجرم «إثارة النعرات الطائفية والحضّ على النزاع بين أطراف الأمة». وقد ردّ استئناف الموقوفين، لكنّ وكلاءهما عادوا واستأنفوا مجدداً، وملف الدعوى اليوم لدى رئيس الهيئة الاتهامية القاضي عفيف الحكيم، الذي يفترض أن يقبل الاستئناف أو يردّه خلال اليومين المقبلين.