هو أحد أبرز النحّاتين السوريين، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، رغم أنّه قضى أكثر من ثلثي سنواته الاثنتين والستين خارج سوريا. ولد عاصم الباشا في بيونس آيرس، لأب مهاجر وأم أرجنتينية. كان والده فلاحاً بسيطاً ارتاد «الكُتَّاب» في طفولته، وتعلم القراءة بالمقلوب لأن المصحف كان ملك طفلٍ يجلس قبالته. من الوالد، أخذ حب المعرفة، بينما تعلّم من أمه كيف يكون المرء حاضراً وغائباً في آن واحد. تفتحت موهبته في الرسم وصنع الأشكال باكراً. كان في السابعة، حين أرسله والده إلى أكاديمية «بويدو» المخصصة للكبار في بيونس آيرس. في الحادية عشرة، عادت العائلة إلى مسقط الرأس في يبرود (80 كلم شمال دمشق). هكذا، استعاد الفتى الطليق بالإسبانية لغته العربية، وصارت أبجدية وعيه وثقافته، ثمّ أضاف هويّات ولغات أخرى إلى رصيده. «كأنَّ أمي دلقتني على عربة متحركة لا على أرضٍ مستقرة»، يقول عاصم الباشا الذي تحولت حياته إلى رحلة يطارد فيها الهواء اللائق،
بمخيّلته الطليقة، ومنحوتاته الغارقة في نوعٍ غامض من الأسى والعزلة. قبل ذلك، سيجرّب حظه في الشعر. في الرابعة عشرة، أرسل قصيدته الأولى إلى جريدة «الثقافة» التي كان يصدرها الشاعر مدحت عكاش، لكنّه ـــــ لحماقته كما يقول ـــــ أقلع عن الشعر لأنهم بدلوا كلمة في نهايتها. في الثامنة عشرة، سيكتب روايته الأولى التي ـــــ لحسن الحظ ـــــ أتلفها سيل جرف منازل عديدة في بلدته.
في العشرين، سيحصل على منحة حكومية لدراسة النحت في «معهد سوريكوف للفنون التشكيلية في موسكو» المعهد السوفياتي الأشهر للفنون الجميلة، وسيكون الوحيد المقبول بين المتقدمين العرب والأجانب. بين الدراسة في موسكو وقضاء الصيف في باريس، تعلّم النحات الشاب الروسية والفرنسية، وقضى سبع سنوات بين جغرافية الفن الأوروبي المنقسمة إلى يسار جدار برلين ويمينه. «كنت محظوظاً بالاطلاع على فنون الواقعية الاشتراكية، وعلى أقصى حالات التنوع والتجريب في الغرب، إلا أنني لم أجد ضالتي في الجانبين، بل دفعني ذلك للاستغراق أكثر في تراث المنطقة التي جئت منها».
في سنته الثالثة، أُصيب باكتئاب شديد لعجزه عن مجاراة زملائه الروس القادمين من مدارس متخصصة في النحت والرسم، فقرّر التوقف عن الدراسة، وحبس نفسه في غرفته. لكنه عاد بعد شهر حين قيل له: «قد لا يكون شغلك متكاملاً، لكن فيه حياة أكثر». على أي حال، لم يمر الانقطاع عن الدراسة بلا فائدة، فقد عكف أثناء ذلك على كتابة رواية يؤرخ فيها لسيرة أبيه وأحلامه المنكسرة. بعد عشر سنوات، أعاد النظر فيها وعنوانها «وبعض من أيام أُخَر»، وعرضها على صديقه محمد كامل الخطيب الذي فاجأه بإصدارها ضمن منشورات وزارة الثقافة.
المفترق الأهم والأكثر إيلاماً حدث بعد عودته من موسكو عام 1977، إذْ كانت التقارير الأمنية قد سبقته، وجعلت منه شخصاً غير مرغوب فيه. وبدل أن يصبح أستاذاً في كلية الفنون الجميلة، وجد نفسه معلّماً للرسم في الحسكة (أقصى شمال شرق سوريا). كان ذلك صعباً بوجود زوجة وولدين. منذ تلك اللحظة، أدرك أنّه محكوم بالهجرة. قضى سنة واحدة في «منفاه» وعاد إلى دمشق. أقام معرضين عام 1979، ثم غادر إلى باريس للحصول على شهادة الدكتوراه في السوربون، لكنّه تخلى عن الفكرة، وسافر إلى إسبانيا. عام 1983، عاد مجدداً إلى دمشق، حيث وجدت زوجته الفرنسية وظيفة في «المركز الثقافي الفرنسي»، براتب يسمح للعائلة الصغيرة بالعيش، ويسمح له بممارسة النحت. «بقينا أربع سنوات لم أستطع فيها أن أحقق أياً من طموحاتي، لكنّي عشت أخصب سنوات الصداقة والسجالات الثقافية. كنا مجموعة حالمين. شعراء ومسرحيون وقصاصون ومتبطلون نلتقي في بيتي أو في»الكهف»، وهو الاسم الذي أطلقناه على بيت الشاعر بندر عبد الحميد». في الأثناء، ترجم مقاطع من رسائل فان غوغ، وصدرت بعنوان «عزيزي ثيو»، وترجم بالتعاون مع صالح علماني ديواناً لرفاييل ألبرتي، وقصصأ من أميركا اللاتينية. ولا ننسى هنا أنّ روايته صدرت في تلك الفترة أيضاً. كأنّ إعاقة طموحاته النحتية وجدت متنفساً لها في الكتابة والترجمة. هكذا، قرّر إقامة معرض أخير سمّاه «معرض الوداع» تيمناً بـ«حجة الوداع» للنبي، وغادر إلى إسبانيا، حيث لا يزال يقيم منذ 24 عشرين سنة. استُقبل المعرض بحفاوة شديدة إلى درجة أن اسم عاصم الباشا ظل مضيئاً في النحت السوري حتى في سنوات غيابه الطويل. «أظن أن كل سمعتي النحتية أتت من ذاك المعرض. كان بداية لكل ما سأنجزه لاحقاً».
اشتغل عاصم الباشا على موضوعات استمر بعضها سنوات عديدة: «الخصوبة»، «الرؤوس الكبيرة»، «الانتظار». لكنّ مخلوقاته المفضّلة ظلّت بشرية، قبل أن يطعّمها بأشجار فولاذية وطواطم في الفترة الأخيرة. من يشاهد منحوتاته يظن أنها خارجة للتو من متحف بابلي أو آرامي. أشخاصه مرتهنون لوحشة متمادية وأسىً غامض. غالباً ما نراهم مسمّرين في وضعياتهم، بينما حركتهم المفترضة مدفونة داخل الكتلة الرخامية أو المعدنية. لم يتخلّ الباشا عن هويته المحلية، لكنّه نقلها إلى بشر الحياة اليومية الراهنة. كأنّه قدّم حصته النحتية في ترجمة اللحظة الثقافية في تلك الحقبة التي توالى على ترجمتها مسرحيون مثل سعد الله ونوس وفواز الساجر، ورسامون مثل منير شعراني ويوسف عبدلكي، وكتّاب مثل سعيد حورانية وحسن م. يوسف ومحمود عبد الواحد، وشعراء مثل رياض الصالح الحسين ونزيه أبو عفش. الأخير كتب عن أحد معارض الباشا: «في قراءة تماثيلك، يكتشف الإنسان أن مستقبل القصيدة غير مهدد». المؤلم أن أغلب هؤلاء انتهوا إلى الموت أو إلى اليأس. يتذكر أن الرحّالة عبد الرحمن منيف اقترح أن يكون ضمن كتابٍ يؤرخ لتجارب خمسة نحاتين عرب، ليكتشف أنّه سيكون الحيّ الوحيد بين أربعة غائبين. يقرّ عاصم الباشا بافتقاده أصدقاء ذلك الزمن، وبانتظاره مصيراً مماثلاً. «حتى منحوتاتي لم تعد تقول لي شيئاً. إنها ليست أكثر من شهادات على إخفاقنا».
إلى جانب النحت، واظب عاصم الباشا على الكتابة، فصدرت له مجموعتان قصصيتان: «رسالة في الأسى» (1988) و«باكراً بعد صلاة العشاء» (1994)، إضافةً إلى كتابة ما سمَّاه «يوميات المشغل» التي قدم فيها خلاصات شخصية مدهشة عن عمله وحياته ومصادر ممارسته. وقد فازت هذه الكتابات بجائزة «ابن بطوطة» لليوميات، وصدرت بعنوان «الشامي الأخير في غرناطة».
في أعماله النحتيّة الأخيرة، بات المعدن أكثر حضوراً، وخصوصاً في نحت الأشجار التي فازت إحداها بالجائزة الأولى في سمبوزيوم دبي (2004). أما شخوصه، فلا تزال مجروحة وقلقة ومثقلة بالانكسار. «لا يضيرني أن يقال إن أعمالي مقلقة، ولهذا فهي لا تجد الشاري. من يشتري الهمّ ليجالسه في بيته؟».
اليوم، يعيش الباشا كراهب متوحد في مشغله الغرناطي، حتى إن ملامحه تسرّبت إلى بعض البورتريهات الجديدة. «هذه ليست نرجسية، بل استثمار للنموذج الأقرب». يضحك ويضيف: «كثيراً ما اعتقدت أن النحت هو نوع من المذكرات الشخصية».


5 تواريخ

1948
الولادة في بيونس آيرس (الأرجنتين)

1979
أقام أول معرض فردي في دمشق

1984
أصدر روايته «وبعض من أيام أُخر» (منشورات وزارة الثقافة)

2004
حصل على الجائزة الأولى في سمبوزيوم دبي

2010
افتُتح أمس معرض استعادي لمجمل تجربته النحتية في غاليري «تجليات» (دمشق)، ويستمرّ حتى 31 كانون الأول (ديسمبر) الحالي. للاستعلام: 00963116112338