«نور الإمارة عندما قالوا انطفى/ والجدارة طالبتني بالوفا/ وخيّروني بالإمارة للزجل/ ما بصطفي إلا محمد مصطفى». بهذين البيتين نصّب الشاعر علي الحاج القماطي، السيّد محمد المصطفى أميراً للقوافي الزجلية الصعبة والمرتجلة. يومها لم يكن المصطفى قد تجاوز الثامنة عشرة بعد، وكان القماطي يصحبه معه إلى الحفلات، ليسمع الجميع شعره. في بلدة «حومين التحتا» (قضاء النبطية ـــــ جنوب لبنان)، ولد السّيد محمد المصطفى عام 1922، وفيها قضى عمره. منعه عشقه لهذه الأرض من الانخراط في ضجيج المدينة. ورغم تنقلاته المتعددة في لبنان وخارجه، لإحياء الحفلات والأعراس، بقي حريصاً على العودة إلى مسقط رأسه. يقول ممازحاً: «لو تركت الضيعة لكنت جنيت الكثير من المال».
غلّب السّيد حلم والده على رغبته في أن يصبح تاجراً، وانكبّ على شغفه الدفين: الشعر. «كان والدي أمياً، لكنَّه كان مولعاًَ بالشعر، وكان يذهب إلى النبطية ليجلب لي مجلدات الشعر، وتغريبة بني هلال، وقصص عنترة، وتراث الإسلام». وبسبب عشقه للأدب، وجد المصطفى قاسماً مشتركاً بينه وبين الشاعر عارف الحرّ، أستاذه في المدرسة، الذي كان قد انتقل إلى حومين التحتا، و«سكن هنا في البيت فوقنا». كان الشيخ عارف ينادي على محمد ابن الرابعة عشرة، للغناء أمام ضيوفه، وكان يمدّه بالكتب، فحثّه على التعلق بـ«نهج البلاغة» وقصائد المتنبّي، والشريف الرضي (969 ـــــ 1015)، ومن خلال أشعار الأخير، حفظ أسماء الأسلحة والخيول. استعاض عن متابعة الدراسة بحفظ القرآن الكريم، ومنه استعان بالعديد من المفردات. «قرأت الكتب بنهم منذ كنت في الرابعة عشرة حتى الثامنة عشرة، وبعدها توقفت... كوّنت معظم معرفتي وثقافتي خلال هذه الفترة»، يخبرنا. مثّلت المشاركة في الأعراس والمناسبات نقطة انطلاقته العملية، وذلك حتى عام 1940 حين أسس «الرابطة العامليّة» مع الشعراء أسعد سعيد، وعبدالجليل وهبي، وعلي الحاج البعلبكي، وعبد المنعم فقيه. بعد نحو سبع سنوات، انتقل إلى «جوقة خليل روكز» التي كانت تضم روكز، وأديب محاسب، وطانيوس حملاوي. عام 1962، ترأس جوقة «خلود الفن» وتألفت من خليل شحرور، وخليل عيّاش، وجورج أبو أنطون. وبعد مرور 13 عاماً تقريباً، انصرف السيّد محمد المصطفى إلى المباراة، وواجه كثراً، من بينهم موسى زغيب، والراحل أسعد سعيد، وزغلول الدامور. أحيا مئات الحفلات في الخارج، فسافر إلى أفريقيا عام 1967، وبعدها إلى الخليج والإمارات العربية المتحدة وأوستراليا.
عايش السيد معظم المراحل السياسية في لبنان، وعبَّر عنها شعراً بكل تفاصيلها، فعُرف قومياً عربياً أيام عبد الناصر، ثمّ مؤيداً للإمام موسى الصدر، ومحافظاً بعدها على علاقة متوازية بين «حركة أمل» و«حزب الله».
فضّل المصطفى الارتجال على الكتابة، وتميّز بالقوافي الصعبة. «القوافي السهلة لا تخلق المعاني الثقيلة، على الشاعر أن يحصر نفسه في قافية ومعنى ضيّقين، ليبدع»، يقول. ورغم أنّ الناس يفضّلون تلك الخفيفة والسهلة، يرى هو أن الأشخاص المميزين سيجدون في «الصعوبة» نكهة مضافة إلى الزجل. عدم اكتراث السّيد بالكتابة، جعله اليوم قلقاً على العديد من الأبيات التي بدأ ينساها، مع العلم أن ابنه راضي أنقذ مجموعة كبيرة منها، وجمعها في «ديوان السيد محمد المصطفى» عام 1997.
تعلّقه بالشعر، وازاه حبّه للأرض والتجارة، وقد اعتاش منهما. وتأذّت عيناه هو الذي جعل الليل للقراءة والكتابة والنهار للعمل والزراعة، حتّى فقد بصره تماماً عام 2002. بقي يحيي الحفلات حتى عام 2005، وكانت حفلته الأخيرة في صور. ومنذ ذلك الحين، ابتعد السيد محمد المصطفى عن الأضواء، واكتفى بالتواجد قرب عائلته، فمشكلة بصره خلقت عنده أزمة نفسيّة كبيرة، فمن كان يعتلي المنبر ويفرض وهرة استثنائية على الحاضرين، يعزّ عليه اليوم أنه يحتاج إلى المساعدة في الحركة والتنقل طيلة الوقت.
تزوّج السيد محمد المصطفى وهو في التاسعة عشرة من عمره من خديجة بلّوط، وله منها ابنه الأكبر مصطفى. ثمّ تزوّج من سعدى عيسى، وله منها ولدان هما الشهيد علي، وراضي الذي يعيش مع والديه ويلاحق كل تحركات والده، إضافة إلى ست بنات. هو محاط الآن بـ36 حفيداً تصل درجة تعلقه بهم حد العشق. ورث راضي ومصطفى عن والدهما ملكة الشعر، فظل الأول يشارك في المباريات لفترة تقارب السبع سنوات. ولأن الأمر بحاجة إلى تفرغ كامل، ومردوده المادي غير كاف، ركّز على العمل في العقارات. أما مصطفى فيكتب الشعر بإتقان، إلا أنه يفضل إلقاءه في الأعراس والمناسبات فقط.
خاض أبو مصطفى أصعب امتحان قد يخضع له أب، حين استشهد ولده علي وهو في السادسة والعشرين من عمره، في المجزرة التي ارتكبها العدو الإسرائيلي في بلدة حومين التحتا عام 1985. حينها اختبر «كيف يكون الألم حقيقياً». «جرّبت احفظ بيت القصيد/ حسّيت إنّو البيت ع راسي انهدم»، كتب يومها.
اليوم، وفي ناحية هادئة جداً من بلدته، يكمل السيد محمد المصطفى حياته، وفي ذهنه شعر متدفق يقف المرض حائلاً دون إيصاله إلى الناس. وفي وجدانه قلق على مستقبل الزجل في لبنان، «لأن المواهب قلّت... وما عاد في شي يعبّي الرّاس».


5 تواريخ

1922
الولادة في حومين التحتا (النبطية، جنوب لبنان)

1940
أسّس جوقته الأولى «الرابطة العامليّة»

1997
صدور كتابه الوحيد «ديوان السيد محمد المصطفى»
(دار الفكر)

2005
أحيا حفلته الأخيرة في صور مع الشاعر موسى زغيب

2010
يكمل حياته مع عائلته بعيداً عن الأضواء