لم يكن إدمون عمران المليح (1917 ـــ 2010) مجرَّد كاتب كالآخرين، بل عُدّ دائماً ظاهرة ثقافية وأدبية فريدة. هذا الأديب المغربي الذي رحل عنا في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عن 93 عاماً، عرف دائماً كيف ينعم بحياة الهامش بعيداً عن المؤسسات الثقافية التي تدجِّن الكتاب. عرف كيف ينتصر للعمق الإنساني ضد الشعارات والأيديولوجيات، وكيف يستمتع بالحرية التي تتيحها له شخصيته السمحة المتعددة، من دون أن يسقط في براثن الهويات القاتلة.
لذلك، رفض إدمون الفرنكوفونية، وتصدّى لها رغم أنّه كاتب بالفرنسية. وظلَّ يفضح الصهيونية، في مختلف أعماله الأدبية والفكرية، هو اليهودي الأصل والديانة.
إنّه طائر حرّ من النوع النادر، وأديب من طراز فريد. وقّع على مسار فكري استثنائي، وفرض نفسه أحدَ رموز الأدب المغربي الحديث... ولد المليح في مدينة آسفي على ساحل الأطلسي عام 1917. لكنَّ حرفة الأدب لم تدركه إلا بعد الستين، ليُصدر عام 1980 سيرته الذاتية المؤثرة «المجرى الثابت» عن دار «ماسبيرو» في باريس، لتتوالى بعدها رواياته المتميزة: «أيلان أو ليل الحكي» (1983)، «ألف عام بيوم واحد» (1986)، و«عودة أبو الحكي» (1990)، و«آبنر أبو النور» (1995)، إضافةً إلى إصدارات نقدية، وفكرية متنوعة، أهمها: «جان جينيه: الأسير العاشق» (1988)، «العين واليد» (1993)، «حقيبة سيدي معاشو»، «المقهى الأزرق» (1998)، «كتاب الأم» (2004)، وأخيراً كتابه الأوتوبيوغرافي «رسائل إلى نفسي» (2010).
في بداية شبابه شارك المليح في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي في صفوف «الحزب الشيوعي المغربي» الذي التحق به عام 1945. وبعد الاستقلال، واصل نضاله في صفوف الحركة اليسارية، وتعرض للاعتقال والتعذيب. مرحلة الاحتقان السياسي التي دخلها المغرب إثر أحداث 23 آذار (مارس) 1965 الدامية، دفعت به ليستقرّ في فرنسا، من دون أن يطلب الجنسية الفرنسية، كما فعل غيره من الأدباء والمعارضين السياسيين المغاربة في المنفى. رفض إدمون عمران المليح الجنسية الفرنسية في أحلك الظروف. فقد كان من العبث بالنسبة إليه أن يفرح بجنسيّة، كان قبيل سنوات يكافح بهدف التحرّر منها!
اشتغال المليح خلال سنوات المنفى في ملحق الكتب في صحيفة «لو موند» الفرنسيّة، وضعه في قلب الحياة الثقافية الفرنسية. لكنّ ارتيابه الدائم من الأضواء، وتشبثه بحياة الهامش، جعلاه يحتفظ لنفسه على الدوام بمسافة مع الوسط الثقافي الفرنسي. وحتى حين اختار ولوج عالم الكتابة، بعد الستين، فعل ذلك من باب سرِّي، لا يدخل عبره إلا الكبار. منذ البداية جاء خياره حاسماً. فهو لم يكتب كما فعل أغلب الكتاب المغاربيين لقارئ البلاد الاستعمارية، بل كتب للمتلقّي المغربي. لم يكن يؤلِّف للفرنسيين حكايات مثيرة عن مستعمراتهم السابقة، فالحكايات لم تكن تعنيه أصلاً، لأنه كان يؤمن بأن «هذه الأخيرة ـــــ وحدها ـــــ لا تخلق الأدب». ولم يكن يبحث أثناء الكتابة عن مواضيع تغري قرّاءه، يقول:«عندما نتعامل مع الأدب على أنّه موضوع، يصير بالنسبة إليّ مثيراً للضحك».
الكتابة بالنسبة إلى إدمون عمران المليح كانت دائماً شيئاً آخر: «مدّ لغوي جارف يأتي أحياناً خالياً حتى من علامات الترقيم. فأنا لا أشتغل وفق تصميم معيّن. أعرف متى يبدأ الكتاب من دون أن أكون متأكداً من أنّها بداية سليمة. بل غالباً ما أعتقد أن البداية خاطئة. لكنّني أكتب دائماً انطلاقاً من صدمة انفعالية تثير الكتابة: حرب لبنان، أحداث الدار البيضاء، وغيرها». أما على الصعيد الأسلوبي، فقد حسم منذ «المجرى الثابت»، موقعه إلى جانب الكبار في عالم الأدب: تكثيف أسلوبي يجنح بالكتابة إلى تخوم قصية لا قِبَل لجمهور القرّاء بها. كان هذا كافياً لكي تتراجع حماسة دور النشر الفرنسية الكبرى لهذا اليهودي المغربي الغامض... وجاءت روايته الثالثة «ألف عام بيوم واحد» عام 1986، لتعلن الدور على إثرها القطيعة رسمياً مع «جايمس جويس المغرب». فقد رفضت كل من «دار غاليمار» و«دار سوي» الشهيرتين، نشر الرواية لصعوبتها أولاً، لكن أيضاً وأساساً، لأن إدمون اتخذ من مذبحة صبرا وشاتيلا منطلقاً لكتابة هذا العمل. يحكي بطل الرواية اليهودي المغربي نسيم، بجرأة نادرة، عدداً من فظائع الجيش الإسرائيلي في لبنان. يفضح العمل أيضاً ظروف التهجير القسري لليهود المغاربة إلى إسرائيل، في خمسينيات القرن الماضي، ودور المنظّمات الصهيونية في هذه العملية التي يراها إدمون «أكبر كارثة حلَّت في تاريخ المغرب». هنا بالضبط أحس المليح بضغط الحصار الذي بدأت بعض اللوبيات تمارسه ضده في قلب عاصمة ثقافيّة حرة مثل باريس، وخصوصاً حين بدأ البعض يوجّه له في الإعلام الفرنسي تهم «معاداة السامية»، هو اليهودي أباً عن جد!
هذا الحصار الخانق لم ينل شيئاً من عزيمة صاحب «المجرى الثابت». فإدمون عرف منذ البداية أن تجربته منذورة للهامش. فنصوصه العميقة ليست متاحة للقارئ العام، ومواقفه الفكرية لا تتملق المؤسسة الثقافية والسياسية الفرنسية، إضافةً إلى حذره الدائم والمعلن من الفرنكوفونية التي كان مقتنعاً بأن ارتماء الأدباء العرب في أحضانها سيحدّ من قيمتهم الأدبية، وقد يعرّضهم لخيانة قضاياهم المصيرية. حتى اللغة الفرنسية التي كان يكتب بها هو، كان مؤمناً أنّها لغة خاصة به، وليست لغة الفرنسيين. يكفي أن فرنسيته المتينة والجموحة، تختلف كثيراً عن فرنسية الصالونات الباريسية. كان يقول: «أكتب باللغة الفرنسية، لكنّني أعلم بأنَّني لا أكتب بها. هناك الجانب المتميز من لغة ما، والمزرُوع في لغة أخرى. لغتي الأم هي العربية، وهي ناري الجوّانية. أكره كلمة فرنكوفونية، وأشعر بالأسف الشديد لأنني لا أكتب بالعربية، هذه اللغة التي أحبها كثيراً». لهذا كان من الطبيعي أن يعود «أبو الحكي» إلى المغرب عام 2000 ليستقرّ فيه نهائياً، حيث كان الجميع كتاباً وصحافيين من مختلف الأجيال ينادونه الحاج إدمون.
وفي بلده الأم، واصل الحاج إدمون معاركه القديمة. يهاجم الفرنكوفونية محذّراً من الاستلاب الفكري والثقافي، وينبِّه المغاربة من أخطار التغريب الذي تتعرض له ثقافتهم، كما ظلّ يدعو دائماً إلى حماية اللغة العربية، والاعتناء بأدبها المكتوب، ليس فقط لأنّه هو الأصل، بل لأنّ مستقبل الأدب المغربي هو ما تكتبه الأجيال الجديدة باللغة العربية. واليوم، بعدما غادرنا، رافقه الكثيرون إلى مثواه الأخير حيث دفن في المقبرة اليهودية بمدينة الصويرة على تلّة تطلّ على المحيط الأطلسي. وهي المقبرة نفسها التي كان يزور فيها قبر جدّه الذي كان يمتهن القضاء العبري في الصويرة، بعد أن يستعير طاقية يهودية من أحد أصدقائه في المدينة.
ترجّل الكاتب الكبير إدمون عمران المليح، بعد حياة حافلة بالنضال والكتابة. ظلّ دوماً عصياً على الاختزال في هويّة ضيّقة. فقد كان يردّد دوماً: «أنا كاتب مغربي يهودي عربي أمازيغي... وفلسطيني أيضاً».


الأسير العاشق

معركة إدمون عمران المليح الرئيسية بقيت التصدّي للمشروع الصهيوني. فقد كان يحلم بالصلاة في القدس، بعد أن تتحرر من الاحتلال الإسرائيلي. هكذا ظلّت تصريحاته النارية تتوالى في الصحافة المغربية والفرنسية: «قيام دولة إسرائيل أكبر تراجيديا عرفها تاريخ اليهود»، كان يقول. «ليس يهودياً من لم يستنكر ما ترتكبه إسرائيل من جرائم حرب في حق الشعب الفلسطيني الأعزل. ليكن ما يشاء، لكنّه بالتأكيد ليس يهودياً».