صباح زوينناتاشا أنطونيللو أشقر، كاتبة باللغة الفرنسية، ذات علاقة صعبة مع مدينتها، مع حربها وسلمها، مع المحيط الاجتماعي عامة، والذكوري خاصة... هذا الأخير، بما يمثّل في ذاكرتها من رمزٍ للعنف والحرب، سيحتلّ واجهة 80 cellules مسرحيتها المؤلفة من فصل واحد التي صدرت أخيراً عن «مكتبة أنطوان» بالفرنسيّة. تلجأ «هي» البطلة، إلى لغةٍ عنيفة، تخاطب بها «هو». هذا كلّ ما نعرفه عن الشخصيتين في العمل. حديث «أثيري» بين الـ«هي» والـ«هو»، يطول ساعات، عبر الهاتف العادي أحياناً، أو الخلوي مراراً وتكراراً.
كل الكلام يدور عبر الهاتف. تارة ينقطع خط أحدهما لضعف الإرسال، وطوراً الكهرباء هي التي تنقطع، لتتوقّف معها المكالمة. وأحياناً كثيرة، تطلب المرأة من «هو» أن يقطع خطّه لغلاء سعر المخابرة، وهكذا دواليك على طول 220 صفحة من «الفوعة» الكلامية، بأسلوب حاد، وضمن دفقٍ كلاميٍّ هاذٍ. شلال من المفردات، بعضها من ابتكار أنطونيللو، وبعضها الآخر ينتمي إلى قاموس البذاءة، لغة العالم الذكوري. كأنّ الكاتبة تردّ الصاع صاعين، لكل أشكال العنف والحرب التي أجّجها الذكور.
في «زنزانة 80» لا تتمرد أنطونيللو على الحرب الأهلية فحسب، بل على واقع النبذ، وما نتج منه من شعور بعدم الانتماء الاجتماعي في محيطها من «اللبنانيين الأصليين»، الذين عدّوها مجرد دخيلة غريبة، لكونها لا تنتمي إلى عائلة لبنانية «صافية» أباً عن جد. تنتقد أنطونيللو «التصفيات العرقية» (كما جاء في المسرحية) التي كانت تقوم بها الميليشيات في حي التباريس حيث كانت تسكن، وشهدت على عملية قتل متعمّد لعامل سوداني في أحد الأزقة.
80 cellules... عبث وعنف ودمار ذاتيّ وقسوة
نجد على صفحات العمل كلمات لبنانية عديدة، وعبارات عامية فرنسية. كان لا بد من ذلك، كي يتلاءم الكلام مع موضوع المسرحية، ألا وهو تصفية الحسابات مع عنف الحرب وقبحها، من خلال عنف كلامي ضروري، في عملية المساءلة. جاء الحوار المسرحي تحقيقاً شرساً، مع ذلك الـ«هو»، الرجل الذي تقصفه عبر الهاتف بوابل متواصل من الكلام المدمر، والمهين، والعنيف.
تمتلك أنطونيللو الجرأة على قول ما لا يقال عادة عن جرائم الحرب، وعبثية الحياة الجنسية التي عاشتها بكل حريتها وجنونها. جاءت عباراتها دقيقة في وصف مشاهد من تلك الأيام، ليس فقط تلك المتعلقة بالأجسام المبعوجة والرؤوس الممعوسة، بل أيضاً في وصفها لأبسط تفاصيل الحياة اليومية. تكتب: «أمررت يدي على فخذيّ لأتخلص من بقع المني، لأنّي كنت أعلم أنّه ليس من نقطة ماء في الحنفيات. قلّة المياه، ألواح الصابون المشققة، المزيّحة والمغبّرة على المغاسل، هل تذكر؟ المغاسل خارج الخدمة، المغاطس التي تحوّلت إلى خزانات للمياه، وألواح الصابون الجافة واليابسة إلى الأبد. الحرب هي كل هذا أيضاً».
تنتهي المسرحية بموت «هو». نكتشف أنّه كان ميليشوياً يمينياً أيام الحرب، وأصبح بعدها صحافياً يسارياً. يموت بطريقة عنيفة كأن الكاتبة عاقبته. يموت لأنها تنتصر عليه منطقياً، أم لأنه رأى نفسه أمام حائط وجودي مسدود؟ عبث وعنف ودمار ذاتي، ضمن كتابة لا تتوانى عن الصريح والمباشر والقسوة، لتشدنا إليها بقوة.