عبد الحكيم قاسم* حينما التحقت بكلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، كان معنا طبعاً فتيات. كنّ يمثلن أقلية قليلة، وكنّ يجلسن في الصفوف الأولى من المدرجات، ولا يتحدثن مع الطلبة تقريباً. لكن كانت ثمة محاولة دائبة للخروج من مأزق الثنائية هذا. وكان هناك إلحاح على ما يسمى الروح الجامعية، وهذا مفهوم مؤداه أن يكون الطلبة والطالبات معاً في إطار الفضيلة. ومعنى ذلك ألا تنشأ بين أزواج منهم علاقات جنسية. الكلّ كان يلح على ضرورة هذه الروح الجامعية، لكنني أزعم أن كل طالب وطالبة بلا استثناء كان يأمل أن يظفر بعلاقة جنسية ـــــ أو ما يسمّونه الحب ـــــ مع زميلة أو زميل. لكن وجود البنات والصبيان معاً في حفلات أو رحلات أو اجتماعات، كانت تنشأ عنه، على نحو طبيعي تماماً، لحظات من زوال الجدران بين عالمي المرأة والرجل. تلك كانت لحظات قليلة ومتباعدة. ما زلت أتذكر أنها كانت رائعة، لكنها لم تتحول عندي إلى تجربة «محولة».
خارج جدران الجامعة، كان الطلبة القادمون من خارج المدينة يعيشون فيها كأجانب لا يختلطون بأهلها أبداً. في هذه الحالة، لم نكن نرى من النساء إلا المومسات. لقد خبرت هذا العالم بعمق، لكني لا أريد أن أتكلم عليه هنا كثيراً. ما أريد أن أقوله أن الطلبة والمومسات كانوا يعيشون وضعاً استثنائياً جداً، وأنّ العلاقة بينهم كانت تنزل، لا أقول إلى مجرد الفعل الجنسي، بل إلى مجرد الإيلاج والإنزال المؤديين إلى تخفف الرجل من احتياج عضوي. وهذه علاقة فقيرة إلى درجة غير إنسانية ومدمرة. ولا يقلل من تأثير هذه العلاقة على الجانبين أنّ الطلبة كانوا يمارسونها موقتاً، وأنّ المومسات كن يمارسنها بأجسام باردة في نوع من العمل لكسب العيش. الجانبان كانت تنتابهما تمزقات روحية مؤلمة.
إلا أنّ هذه العلاقة كانت تتضمن نوعاً من التمرد، لكن جوهر العصيان فيه براق وجذاب. وهو تمرد على ما في المواضعة الاجتماعية من إلحاق عالم المرأة بعالم الرجل وتبعيته له. الجانبان ـــــ الطلبة والمومسات ـــــ فيهما رفض كامن عميق لهذا الوضع. ومن حيث إنهما لا يملكان إمكان إنشاء مواضعة اجتماعية أخرى، فهما يجردان العلاقة بينهما من كل صور العلاقة بين الرجل والمرأة التي عرفناها وينزلان بها إلى مستوى المبادلة بين الإيلاج وثمنه. هذه علاقة حرة تكون في كل مرة موضوع مساومة خاصة بلا طقوس ولا تراتيل. علاقة لها مدة سريان، وواضحة فيها التزامات كل طرف. إن علاقة المومسات بالطلبة في حد ذاتها كانت تتضمن كل أنواع الشتم والازدراء للعلاقة القائمة بين عالمي الرجل والمرأة في المواضعة الاجتماعية المعروفة، ومن هنا جاذبيتها. لكنها رغم جوهر التمرد الكائن فيها، تبقى علاقة غير إنسانية ومدمرة. وبناءً على ذلك، فقد كانت هناك دائماً محاولات للخروج منها، وذلك بأن يحول طالب علاقته بمومس إلى صحبة وزواج. لكن هذه المحاولات كانت غالباً ما تبوء بالفشل، ويشتاق كل واحد من الجانبين للتمرد مرة أخرى.
في سياق كلامي عن الرجل والمرأة، أريد أن أتكلم على المرحلة التي قضيتها في السجن والتي استمرت 40 شهراً بقيت معظمها في «سجن الواحات». وعن مرحلة الواحات بالذات، سيكون كل كلامي. وقد يبدو عجيباً في سياق حديث عن الرجل والمرأة أن ترد إشارة إلى مجتمع رجالي خالص. إن هذا المجتمع الرجالي الخالص، لأنه كذلك، كان يعاني أزمة روحية شديدة. وهذا المجتمع في حركته الدائبة، كان يعزل عناصر من أعضائه تنقصهم في سيماهم وتكوينهم الخارجي، أو في داخلهم وتكوينهم الروحي ومقدرتهم العقلية والنظرية، سمات القوة، تلك التي اصطُلح على تسميتها الرجولة.
وبالتدريج، كان هؤلاء المعزولون يتحولون إلى ما يمكن أن يكون عالماً آخر مقابلاً لعالم الرجل ملحقاً به وتابعاً له. إن انقسام المسجونين في مجتمع الرجال الخالص في «الواحات» إلى عالمين، كان باهتاً ولا يكاد يدرك. لكنه كان هناك، ولم يكن وجوده ناتجاً من انحراف أخلاقي أو شذوذ في الميول. بل كان يتولد تولداً طبيعياً من الحركة الطبيعية لهذا المجتمع. فإذا كان الناس ينقسمون إلى رجال ونساء، فإن المسجونين في «الواحات» كانوا ينقسمون إلى رجال جداً ورجال.
وهذا هو الأمر المخيف. إن الرجل بطبيعة كونه رجلاً وبممارسته الطبيعية السليمة لرجولته، يخلق حوله تبعاً له ليكون امراة أو رجلاً أقل منه في مواصفات قوته. الفروق أو الاختلافات البيولوجية أو العرقية ليست هي الأمر الحاسم. إنه يؤكدها لأنها واضحة، ولا يمكن تقييدها، لكن الأمر الأهم هو مسألة القوة وعدمها.

* مقاطع من مذكرات غير منشورة