رائعة جورج بوخنر على خشبة لندنيّة لندن ــ محمد العطّار
على خشبة «المسرح القومي» في لندن، قدم المخرج الإنكليزي المعروف مايكل غرانداج رؤيته الجديدة لـ «موت دانتون» رائعة المسرحي الألماني جورج بوخنر (1813 ـــــ 1837). يُعدّ النصّ باكورة الكاتب الفذ، مؤسس الدراماتورجيا الحديثة في المسرح الأوروبي.
بوخنر الذي خطفه الموت باكراً، ترك ثلاث مسرحيات فقط، أسهمت في تطور الكتابة المسرحية الحديثة: «موت دانتون»، و«ليونس ولينا» و«فويتزك»... التراجيديا البروليتارية الأولى، ونقطة الانعطاف الأهم في تاريخ تطور بنية النص المسرحي في أوروبا. وقد واصل فيها بوخنر تمرده على النظم الاجتماعية والسياسية آنذاك، بتمرد مشابه على شكل الكتابة التقليدية. ووصل التشظي في بنية السرد حداً غير معهود، في ظل هيمنة الكلاسيكية على المشهد المسرحي في ألمانيا آنذاك بقامات عالية من وزن غوته وشيللركتب بوخنر «موت دانتون» عام 1835، مستحضراً الأيام الأخيرة من حياة جورج جاك دانتون، أحد أهم رموز الثورة الفرنسية، التي أطلقت الشرعة الأولى لحقوق الإنسان قبل أن تلتهم أبناءها. يرى النقاد في هذا النص المُدهش إرهاصاً لولادة المسرح الوثائقي. إذ اعتمد بوخنر على مقاطع حرفية لخطابات روبسبيار ودانتون إبان محاكمة هذا الأخير.
يقدم غرانداج رؤية جديدة للنص، فيختزل مشاهد كثيرة لينقله من حيز التأريخ الدرامي، إلى حيز الدراسة السيكولوجية لشخصيتي دانتون وروبسبيار. لكنّ رؤيته تفتقد التحليل التاريخي الموجود في نص بوخنر، وهو بامتياز إحدى أهم تراجيديات الثورات البرجوازية الحديثة التي بدأت تظهر مع مطلع القرن التاسع عشر. وتتمحور كما يرى ماركس حول رصد مفارقة تباعد الغلاف الأيديولوجي للثورة عن أهدافها الحقيقية. لكنّ العرض افتقد حيوية مشاهد الجموع الغفيرة أثناء محاكمة دانتون، وهي المشاهد التي تبقى عالقةً في أذهان كل من شاهد التحفة السينمائيّة المأخوذة من النص نفسه، وتحمل توقيع المعلّم البولوني أندريه فايدا.
إلا أن العرض نجح في تجسيد المفهوم المأسوي للبطل التراجيدي في النص، فـ«دانتون» بوخنر ـــــ الشديد الشبه بـ«هاملت» شكسبير ـــــ شخصية عاجزة عن الفعل، يبدو مستسلماً لمصيره، يرغب ربما في تطهير روحه المتألمة من إرث أيلول (سبتمبر) 1792 الدامي، حين أزهقت الثورة التي كان عرابها، الكثير من الأرواح في أحد أكثر فصولها عنفاً. في أبرز لحظات العرض، يستحضر الممثل البريطاني توبي ستيفنز كاريزما تلك الشخصية الفذة. بصوته الجهوري، بدا دانتون قادراً على دحض اتهامات روبسبيار له بالانحلال الأخلاقي، والانحراف عن خط الثورة، والارتداد إلى ممارسات النبلاء. فيما نجح إيليوت ليفي (روبسبيار)، في كسر الانطباع السائد عن هذه الشخصية بوصفها شديدة الصلابة. روبسبيار الذي يصرخ «الفضيلة يجب أن تحكم حتى لو من خلال العنف»، يخفي خلف قناع الصرامة الرهيب، هشاشةً تبدو جلية حين يقترب منه حليف الأمس دانتون ويلمسه برفق.

افتتن مايكل غرانداج بشخصيات مسرحية شديدة الغنى من «ريتشارد الثالث» إلى «إيفانوف»

يركّز غرانداج في رؤيته الإخراجيّة على الشخصيتين المحوريتين في نص بوخنر، محوّلاً العرض إلى مواجهة بين منظومتين أخلاقيتين: أولى يمثّلها دانتون، تبدو شديدة الجرأة في دعوتها إلى مراجعة الذات من دون المساس بحقّ الفرد في الانغماس في الملذات الحسية، كجزء لا يتجزأ من حريته التي يجب أن تبقى مُطلقة. وثانية يمثلها روبسبيار، ترى في الفضيلة الأخلاقية وانتصار الإرادة الجمعية أساساً لحماية المجتمع وصيانة الثورة.
تبدو هذه القراءة لنص بوخنر مفهومة بالنظر إلى مسيرة غرانداج، الوفي لتقاليد الـ«ويست إند» التي تقدّس تقاليد الفرجة بأشكالها الكلاسيكية، وهو أحد ألمع الأسماء في عالم الإخراج المسرحي البريطاني المعاصر. غرانداج عُرف عنه افتتانه بشخصيات مسرحية شديدة الغنى، من «ريتشارد الثالث» إلى «هاملت»، و«مدام دو ساد»، وصولاً إلى عرضه الأخير Red (أحمر) عن التشكيلي الأميركي الشهير مارك روثكو.
يُحسب للعرض، قدرة السينوغرافيا المتقشفة على خلق فرجة بصرية ممتعة. اختار المخرج خشبة شبه فارغة لتحتضن فضاءات متعددة، تنقلنا من بيت دانتون إلى بيت روبسبيار، ثم الساحات العامة، فقاعة المحكمة المكتظة بالجماهير. وتبلغ الفرجة ذروتها، بمشهد شديد الواقعية للمقصلة وهي تفصل رأس دانتون. لا شك في أن نص بوخنر يبقى فضاءً أكثر رحابة لتعدد القراءات، بوصفه عملاً درامياً سبق عصره ومساحة يتصارع فيها بشر يجسّدون قيماً مختلفة. كما أن النص تحول وثيقةً دراميةً عن سيرورة التاريخ، والعلاقة بين الفرد والجماعة. العرض اللندني جاء ليؤكد أن الصراعات السياسية، وحتى أكثرها انغماساً في الأيديولوجيا، قد تخفي طموحات شخصية. ولعل الدليل الأبرز هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي أجّل حفلة توقيع مذكراته في Tate Modern على بعد خطواتٍ من المسرح القومي، بسبب احتشاد المتظاهرين الغاضبين الذين سئموا كذب السياسيين ونفاقهم.


حتى 14 تشرين الأول (أكتوبر) ـــــ المسرح الوطني، لندن: للاستعلام: +442074523000