القاهرة ــ مصطفى بسيونيمجدداً، تجري محاولة لإسكات الصحافي المشاغب إبراهيم عيسى. هذه المرة ليس عبر حكم بالسجن أو بقرار إغلاق جريدته أو بالضغط على الفضائيات لمنع برامجه، بل إنّ ذلك يجري من خلال شراء رئيس أكبر وأقدم حزب معارض في مصر «الدستور» وإقالة رئيس التحرير فور انتهاء إجراءات التأسيس ونقل الملكية.
المدهش أنه لا أحد يبذل جهداً لتجميل الموقف. صار الأمر يجري حسب العبارة الشعبية «اللعب على المكشوف». هكذا تعفي المعارضة أجهزة الأمن من مهماتها، وتتكفل هي بإسكات المعارضين الخارجين عن السيطرة. النظام من جهته، أوضح ما يكون في مواقفه: يرحب بالمعارضة التي يختارها، ويحدد لها مواقفها وحدودها. معارضة ونظام غاية في الانسجام، مستعدان للتعاون ضد من يخرج عن القواعد وينتهك هامش الديموقراطية الهامشية. يوحي هذا التفاهم ـــــ الذي تترتّب عليه حصة للمعارضة المدجّنة في البرلمان ـــــ بقوة النظام وقدرته على السيطرة على معارضيه، بل توظيفهم.
لكن هل ينزعج نظام قوي وراسخ من جريدة إلى درجة التآمر عليها لإغلاقها أو تغيير مسارها؟ المعروف أن الأنظمة القوية تثبت رسوخها عبر قدرتها على الصمود، رغم وجود معارضة قوية لها. لكن من ينظر إلى المشهد المصري يدرك جيداً سبب اضطرار النظام إلى نسج مؤامرة في مواجهة «الدستور».
لقد بدا النظام صبوراً تجاه معارضيه، ولم يكُفّ عن التباهي باتساع هامش الديموقراطية في الفترة الماضية. لكن الفترة القادمة لا تتحمل الرفاهية الديموقراطية نفسها. الانتخابات البرلمانية تبدأ خلال أيام، وهي تسبق مباشرة انتخابات الرئاسة. ويدرك الجميع أن المطلوب من الاقتراع البرلماني أن ينتج مجلساً، أغلبيته الساحقة للحزب الحاكم. أما المعارضة المدجّنة فتحل مكان كتلة المستقلين و«الإخوان المسلمين» في المجلس. هكذا يقلّ الضجيج والمشاحنات قبل انتخابات الرئاسة. لكن الأكيد أيضاً أنّ النظام لا يريد للانتخابات البرلمانية أن تترافق مع فضائح تستدعي التشهير والضغوط الدولية. طبعاً، لا يمكن فصل الانتخابات

كانت الصحيفة أحد تجلّيات صعود المقاومة في الشارع المصري

التشريعية الممهدة للاستحقاق الرئاسي عن أزمة «الدستور». هذه الأخيرة كانت الأجرأ في مواجهة قضية التوريث. ولعل أهم إنجازاتها أنها أول من تبنى حملة البرادعي رئيساً للجمهورية، بل تحولت إلى أحد المحركات الهامة في الشارع المصري. ولعل ما زاد غضب النظام أنّها لم تعترف بالحدود المرسومة. وهو على ما يبدو سبب هذه الأزمة التي تفجّرت بإقالة إبراهيم عيسى. باختصار، دفعت «الدستور» ومعها عيسى ثمن الجرأة والصدقية وعدم الخضوع للحدود الممنوحة للمعارضة التي يتبناها النظام. إذاً، الرسالة واضحة أن النظام ماضٍ في خططه، ومن يقف ضد هذه الخطط سيدفع الثمن. لم يقتنع النظام بعد بعمق المعارضة التي يواجهها. لم يقنعه أنّ أكثر من مليوني عامل نظموا إضرابات في أقل من ثلاث سنوات، وأن أجيالاً لم تعرف سوى قانون الطوارئ، تهتف كل يوم ضد الرئيس ونجله، وأن متظاهرين يضربون ويسجَنون ثم يعودون للتظاهر فور خروجهم من السجن. «الدستور» التي تآمر عليها النظام والمعارضة المدجّنة لم تصنع المقاومة الشعبية لسياسات النظام، بل العكس. كانت «الدستور» أحد تجلّيات صعود المقاومة، ثم أصبحت أحد مكوّناتها. والمؤامرة عليها لن تنقذ النظام من أزماته لأن من صنع «الدستور» سيصنع ما هو أكثر منها.