غابت فيروز عن الجمهور اللبناني طيلة سنوات الحرب (1975 ـــ 1990). جالت العالم في تلك الفترة، وقدّمت العديد من الحفلات، أبرزها ما صدر في أسطوانتَيْ «في الأولمبيا» (باريس/ 1979)، و«في الرويال فستفال هول» (لندن/1986). حفلة لندن تُعدّ مقدِّمة لحفلات بيت الدين التي صدرت أيضاً تسجيلات من سلسلتها الأولى (2000) في أسطوانة. ونقصد بذلك علاقة فيروز وزياد الرحباني، في الإطلالات الحيّة المهمّة التي أشرف عليها الأخير وشارك في تنفيذها.
الحفلة الأولى في لبنان بعد الحرب، قدّمتها فيروز في ساحة الشهداء. يومها كانت قد انطلقت سياسة «الإعمار» المتمحورة حول الوسط التجاري. وكان المشروع الاقتصادي والعمراني المثير للجدل، في حاجة إلى اكتساب طابع الشرعيّة الوطنيّة، عبر رمز جامع لم يختلف حوله اللبنانيون خلال الحرب. ولم يكن سوى فيروز طبعاً، وقد استجابت السيّدة للدعوة رغم اعتراض شريحة من جمهورها. لكن، بغضّ النظر عن نوايا المنظمين، والتوظيفات السياسية للحدث، فإن الحفلة الشهيرة التي استقطبت جمهوراً هائلاً، أعادت مطربتنا إلى قلب العاصمة الناهضة من سنوات الحديد والنار...
الحفلة كانت مقرَّرة في 17 أيلول (سبتمبر) 1994. قبل نحو أسبوعين من ذلك، في 31 آب (أغسطس)، لبّى زياد الرحباني الدعوة للقاءٍ مع الطلاب في مسرح البيكاديللي (الحمرا). كان الجدار الخارجي للمسرح لا يزال يحمل ملصق مسرحية «لولا فسحة الأمل» التي كانت تشارف عروضها على النهاية. أثناء اللقاء، أثارت مجموعة «معادية للحريريّة» موضوع الحفلة المرتقبة، فانقسم الحاضرون بين معارضٍ ومدافعٍ. فجأة، ظهرت عريضة معَدَّة مسبقاً، تطالب فيروز بإلغاء الحفلة، وجال بعض الناشطين على الجمهور لجمع التواقيع.
على الرغم من بذل الجهود ليل نهار للمساعدة في الإعداد الموسيقي للحفلة، بقي زياد أميناً لقناعاته... وافتتح التوقيع، فاصلاً بين علاقته الفنية بوالدته ومناهضته لمشروع «الإعمار» كما أراده الرئيس الراحل رفيق الحريري. وقال صراحة إنه لا يمكنه أن يكون ضدّ الحفلة أو ضدّ فيروز في الوقت الذي يعمل فيه على التحضيرات ليل نهار. لكنه ضدّ مكان وزمان إقامة حفلة فيروز الأولى بعد الحرب.
الحفلة لم تُلغَ. وزياد لم يشارك فيها طبعاً. غير أن المعترضين على الحفلة عانوا من تخلّفهم عن موعد نادر من هذا الطراز. هؤلاء كان عليهم أن ينتظروا أربع سنوات، ليذهبوا، بعيداً جداً عن رائحة الباطون، إلى بعلبك ورائحة صخور القلعة هذه المرّة، ويشاهدوا العرض الذي قدمته فيروز والفرقة في اسكتشاتٍ منتقاة من مسرحياتٍ رحبانية، وبعض الأغنيات (1998). لكن «رَفيقهم» لم يكن هناك ذلك اليوم أيضاً. بعد سنتين على موعد بعلبك، أطلّت فيروز مجدداً من بيت الدين، في برنامج من توزيع زياد، ضمّ مقطوعات موسيقية وأغنياتٍ قديمة وجديدة من توقيع الأخير، وأغنيات رحبانية، وتحيّة لسيّد درويش من خلال الأغنية الأحب إلى قلب الرحباني الابن: «أهو دَه اللي صار».
حققت الحفلات آنذاك نجاحاً فنياً وجماهيرياً لدرجة أن مَن حضرها اعتقد أنها قد لا تتكرَّر. غير أنّ الحلم الجميل الذي بات واقعاً، لم يكن سوى افتتاح الفترة الأغنى بالمواعيد الحيّة مع فيروز منذ انتهاء الحرب ولغاية اليوم. فبعد بيت الدين 2000، حلّت فيروز على المهرجان سنوياً، حتى موسم 2003 ضمناً (غاب زياد عن حفلات 2002 فقط). غير أن الموسم الأخير كان له نكهة خاصة، مع الروائع الجديدة الأربع التي زيّنت الحفلات، والتي تزيِّن أيضاً الأسطوانة المرتقبة هذا المساء.
بعد بيت الدين، استراحَت فيروز ثلاث سنوات، لتعلن إعادة تقديم «صحّ النوم» ضمن «مهرجانات بعلبك» 2006. لكنّ المسرحية الغنائية الرحبانية التي أعاد زياد تسجيل موسيقاها وأغانيها الأصلية، مضيفاً بعض خطوط التوزيع، لم تقدّم سوى في العرض ما قبل الافتتاحي. العروض الأخرى ألغيت بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان في ذاك الصيف الأسود. لكن فيروز بقيت مصرّة على تقديم «صح النوم»، وإذا بها تطل، بعد أشهر قليلة على الهزيمة الاسرائيليّة، من مجمّع الـ «بيال». كان ذلك نهاية 2006، وكانت الاعتصامات قد بدأت في الوسط التجاري تحت شعار «نريد حكومة نظيفة» (نحن). ثم مرّت الأيام ثقيلة منذ «صح النوم»، في انتظار الموعد المقبل. واليوم نستبق حفلتي الـ«بيال»، ونسأل: كم سننتظر بعد «إيه في أمل»؟ وأي فيروز ستطل علينا في الموعد الحيّ التالي؟ المغنية؟ أم المغنية/الممثلة؟ باتت فسحة الأمل أضيق، ولكن... في أمل.
ب. ص.



«إلى عاصي» هو تحية واضحة إلى الأب المؤسِّس. لكن زياد حيّا الأخوين رحباني من خلال فيروز أكثر من مرّة. «معرفتي فيك» ضمّ إعداداً وتوزيعاً موسيقيّاً (من دون نصّ وتحت عنوان «عينطورة») لـ«تراب عينطورة». «... ولا كيف» حمل تذكيراً بالهامش الفني الديني الذي طبع مسيرة فيروز والأخوين، مع توزيع «يا مريم»، المجهولة المصدر نصاً ولحناً. تبلُغ التحية ذروتها في «إيه في أمل»، مع «بكتب إسمك يا حبيبي» بهيكلية جديدة نصاً وتوزيعاً، وتحت عنوان «بكتب أساميهن»، إضافة إلى الأغنية التراثية «البنت الشلبيّة» التي يعشقها الأخوان وفيروز وزياد.