حسين بن حمزةبمنحها الجائزة لبارغاس يوسا، تجدِّد الأكاديمية السويدية مكافأة أدب أميركا اللاتينية الذي لا يبدو قابلاً للاستنفاد. هكذا، ينضم صاحب «امتداح الخالة» إلى قائمة لن تتوقف أسماء المتوّجين فيها عن الازدياد ما دام أدباء هذه القارة يوصلون الكتابة إلى شاطئ الجودة والإمتاع برغم المخاطر التي تتعرض لها من الأيديولوجيات المسبقة أو النضال السياسي أو القضايا الضاغطة للواقع اليومي. لعل مقولة غابرييل ماركيز «الكاتب الملتزم هو من يكتب أعمالاً جيدة» لا تزال صالحة لوصف رواياتٍ تمتعت بالتزام سياسي وأخلاقي واضحين، لكنها لم تسمح بتمريغ طموحاتها في وحول هذا الالتزام. حتى الديكتاتوريات التي ابتُليت بها شعوب تلك المنطقة لم تمنع كتَّابها من إنجاز رواياتٍ أخاذة وقادرة – في الوقت نفسه – على هتك تلك الديكتاتوريات.
صاحب «البيت الأخضر» لم يخرج من الصورة شبه التقليدية لكتَّاب «الواقعية السحرية» الذين سحروا العالم بمناخاتهم الغريبة والخصبة من كورتاثار إلى ماكيز. وحتى انتمائه إلى الـ boom الأميركي اللاتيني لا يحجب عن القارئ المتتبع الخصوصية التي أنجز بها رواياته. لقد اهتدى بارغاس يوسا مبكراً إلى ضرورة مزج مخيلته المحلية بأفضل منجزات الرواية في العالم، بينما ساهمت إقامته الباريسية، المبكرة والطويلة، إضافة إلى عمله في الصحافة، في كسر ذلك النوع من الحماسة السردية والفكرية المصاحبة للبدايات وتلطيفه.
رغم فوز باكورته «المدينة والكلاب» بجوائز عدة، وانتقالها إلى لغات كثيرة، لم تُخفف تلك الحفاوة رغبته في تسريب مذاقات ومهارات سردية مختلفة إلى نبرته الناشئة، وتحويلها إلى ممتلكات ومكونات شخصية. هكذا، باتت عائلة ضخمة من التقنيات والحساسيات تعيش في أحشاء نبرته التي برع في إخفاء مؤلفين من جنسيات متعددة في طيّاتها. لعلّ كتابه «رسائل إلى روائي شاب» هو جردة متأخرة لهؤلاء. هنا، يخترع بارغاس يوسا روائياً مستجداً كي يتلو علينا كل الروايات والقصص التي تدخّل أصحابها في صوغ تجربته وعالمه الروائي. كأنّه يعزز فكرة أن المؤلفين كلهم يكتبون في مجلد واحد، بحسب عملاق لاتيني آخر هو بورخيس الذي يعترف صاحب «شيطنات الطفلة الخبيثة» بأنّه أول من فتح أبواب أوروبا على أدب أميركا الجنوبية.

أقل شعرية من ماركيز، وأكثر انفتاحاً من كاربنتيه، وأكثر تنوعاً من أستورياس

أما في كتابه «حقيقة الأكاذيب» (عُرب بعنوان «إيروس في الرواية»)، فيسدّد البيروفي المدهش ديوناً شخصية مستحقة لثماني روايات هي: «الموت في البندقية» لتوماس مان، و«المحراب» لفوكنر، و«مدار السرطان» لهنري ميلر، و«حسناء من روما» لمورافيا، و«لوليتا» لناباكوف، و«بيت الجميلات النائمات» لكاواباتا، و«المفكرة الذهبية» لدوريس ليسنغ. إنها سرديات خالدة تمثل، إلى جانب رواياتٍ أخرى طبعاً، أفضل ما أنتجه القرن العشرون، «قرن الكوارث السياسية والحروب الفظيعة، ولكن أيضاً قرن إبداعات العقل الرائعة»، كما قال هو في تقديمه للطبعة العربية من الكتاب الذي لا يكتفي بكشف شغف بارغاس يوسا بتلك الروايات، بل يكشف عن قارئ ذي مهارات نقدية فذة.
لقد حكَّ بارغاس يوسا جملته الروائية بنبرات كثيرة. فضّل تقنيات أسلوبية معينة على غيرها، لكنه سعى باستمرار إلى إذابة كل ذلك في الحكاية كي تبدو حقيقية وقابلة للتصديق. حتى إنه برع في إنجاز روايتين كاملتين (امتداح الخالة، دفاتر دون ريغوبيرتو) باستثمار تجربة الرسام النمساوي الشهير أيغون شلي، محوِّلاً الحيوية الإيروتيكية فيها إلى علاقة حب محرّمة بين البطل المراهق وزوجة أبيه. هكذا، نجح بارغاس يوسا في ابتكار وظائف سردية لتقنياتٍ مجلوبة من عالم الرسم.
أخيراً، نشير إلى أن فوز بارغاس يوسا يكشف أن نوبل تثمِّن صوتاً متفرداً قطع مع «الواقعية السحرية» التي نظن أحياناً أنها كتلة واحدة. إن مقارنة عاجلة مع من سبقوه إلى الجائزة، تُظهر أن بارغاس يوسا أقل شعرية من الكولومبي ماركيز، وأكثر انفتاحاً من الكوبي كاربنتيه، وأكثر تنوعاً من الغواتيمالي أستورياس.

لقد تم تعديل هذا المقال عن نسخته الأصلية يوم الجمعة ٨ تشرين الأول ٢٠١٠