خليل صويلح بفضل الترجمات شبه الكاملة لأعمال ماريو بارغاس يوسا، على يد مترجم بارع من طراز صالح علماني (دار المدى)، بدا فوز بارغاس يوسا بجائزة «نوبل» حدثاً عربياً. ذلك أن رواياته باتت جزءاً من ميراث المكتبة العربية. ولعل مشهد الحشود التي تقاطرت إلى جامعة دمشق قبل أربع سنوات للقاء الروائي في أول زيارة له إلى سوريا، يعبّر عن شغف القراء بأعماله. في تلك الزيارة، تحدّث بارغاس يوسا عن خصوصية أدب أميركا اللاتينية، وأسباب عبور هذا الأدب المجهول إلى القارات الخمس. إذ أرجع شيوع الواقعية السحرية إلى قدرة هذا الأدب على فضح الديكتاتوريات بسرد بلاغي يتجاوز الدعاوى الأيديولوجية الضيقة، وصوغ الروح المحلية بأصالة وشاعرية، وإرساء قواعد تقنية صلبة، وإذا بها تشكّل فضاءً كونياً. كما كان لمحاضرة بورخيس في باريس مطلع الستينات دور في تلقّف هذا الأدب، خصوصاً إثر الانفجار الذي أحدثته رواية «مئة عام من العزلة» لماركيز، بوصفها «إلياذة القارة المجهولة».
لم يكن بارغاس يوسا حينها جزءاً من المشهد. غادر البيرو إلى باريس. وهناك اكتشف أنه لن يكون كاتباً فرنسياً رغم تسمية أصدقائه له «سارتر الصغير الشجاع».
روايته الأولى «المدينة والكلاب»، تعرّضت للحذف في طبعتها الإسبانية الأولى، وأُحرقت نسخها في ليما. وبعد انتهاء حكم فرانكو، نُشرت كاملة. هذه الرواية ستكون المشتل الأول لرواياته اللاحقة، فهو اشتغل على ثيمتين هما «العسف السياسي»، و«العسف الجسدي». كأنه في مناوشته ديكتاتورية السلطة وديكتاتورية الجسد، يختزل آلام الكائن البشري وهواجسه في الانعتاق مما يكوي روحه ويؤجل حضوره الإنساني الخلاق. ولطالما رأى قراء كثر أن رواية «حفلة التيس» روايتهم الشخصية، في كشفها المريع لفظاعة الطغيان وتجلياته العميقة، عبر فضح شخصية طاغية مثل رافائيل تروخيليو الذي حكم جمهورية الدومنيكان بين 1930و1960. شخصيات الرواية تدخل القارئ عنوة إلى جحيمها مثلما تقوده في اللاوعي إلى استحضار ديكتاتوريات محلية مشابهة، أصابت روحه بالعطب ذاته.
تختزل هذه الرواية بحذق ومهارة، المدوّنات السابقة التي اشتغلت على موضوعة الديكتاتوريات مثل «خريف البطريرك» لماركيز، و«السيد الرئيس» لميغيل استورياس. هنا يمزج صاحب «من قتل موليرو» مواصفات المأساة الإغريقية بروح الرواية البوليسية من دون إهمال السرد الفوكنري (نسبة إلى فوكنر)، في تفكيك البنى الزمنية ومزجها بشراسة في وعاء جمالي واحد. ويؤكد بارغاس يوسا أنّ الواقع يتجاوز في هوله المتخيل، على خلفية الفترة التي عاينها ثمانية شهور في الدومينيكان، وكانت حصيلتها شهادات مروّعة عن حياة تروخيليو، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء: «كان خلال جولاته في البلاد، يقدم له البسطاء بناتهم العذراوات هدايا، كما لو أنهم يقدمونها إلى إله وثني». وهذا الإفراط في «مديح القمع» بلور نصاً أخاذاً في فضح احتقار الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليس في أميركا اللاتينية وحسب، بل في معظم أنحاء الكرة الأرضية. «إن الأدب خطير على الطغاة، لأن الواقع متواضع مقابل ما نتخيله في الأدب، فهو يدعو إلى التمرد، وهذا ما جعل الأنظمة القمعية تخلق رقابات متشددة على الإبداع» يقول. على الضفة الأخرى، نكتشف كاتباً

الأدب خطير على الطغاة، لأن الواقع متواضع مقارنة بما نتخيله في الأدب (بارغاس يوسا)

آخر يتوغل في متاهة مختلفة، متاهة اضطرام الجسد، واحتدام روح إيروسية حادة، لا تقل وطأة عما خبرناه في الضفاف الأخرى... حتى إن القارئ يصاب بالذهول وربما الصدمة، أمام مكاشفات الجسد وشهواته ومجونه، في إحالات إلى كتاب القرن الثامن عشر، ورسوم الانطباعيين. هؤلاء الذين سعوا إلى «تحطيم التعارض المفترض بين الجسد والروح». في «امتداح الخالة»، و«دفاتر دون ريغوبيرتو»، و«شيطنات الطفلة الخبيثة» يذهب إلى المناطق المجهولة والمحرمة بمقاربات فرويدية، لاستجلاء أقصى هبات الحرية، واستعادة كيان الغريزة بصفتها جملة ثقافية معتبرة في تاريخ البشرية.
يعترف بارغاس يوسا بأن فولكنر هو أبوه الروحي لجهة الحبكة الروائية الصارمة وعناصر الإثارة والغموض، إضافة إلى فلوبير الذي علّمه أن «الكتابة تتطلب شغفاً وعناداً وعبوراً كي تصبح مهنة للعيش». لكن شهرزاد «ألف ليلة وليلة» علّمته تقنية الحكي المتوالد الذي يشبه «الدميّة الروسية والقدرة على الذهاب في التخييل إلى حدود لا متناهية»
تتمازج في روايات بارغاس يوسا حبكات متباينة، لا تطمئن إلى سردية ثابتة. وهذا ما يمنح كل رواية على حدة ألقها الخاص وأسلوبيتها المبتكرة. في «الفردوس على الناصية الأخرى» نتتبع حياة غوغان في فصول متناوبة مع حياة امرأة عاملة، وإذا بها جدة الرسام الفرنسي المشهور. وفي «امتداح الخالة» تتزاوج قصة حب غريبة بين طفل وزوجة أبيه، على خلفية لوحات إيروتيكية تؤرخ للفن الإيروتيكي. في حوار معه، يقول صاحب «السمكة في الماء»: «الكتابة مهنتي لكني لا أحب أبداً فكرة الانغلاق داخل عالم الفنتازيات. أحب أن أضع إحدى قدميّ في الشارع»، فهل تكون «نوبل» سبباً إضافياً في أن يخترق بارغاس يوسا الجموع؟