دخل نصر أبو زيد إلى عوالم الثقافة من باب «الشعر». أيام الصبا، كان يكتب شعراً عامياً، حتى إنّ أصدقاءه لقّبوه بـ«صلاح جاهين المحلة» لما بين الشاعرين من سمات جسدية، ولولع أبو زيد بنصوص شاعر العاميّة الكبير. في أيام الجامعة، كان يشارك دوماً في مسابقة كلية الأدب الشعرية، وكان يحصل دوماً على المركز الثاني، فيما يأتي صديقه و«منافسه» شاعر العامية المصري زين العابدين فؤاد في المركز الأول. ورغم مشاغله الأكاديمية، لم يتخلّ الراحل عن الشعر. كان يجد ولعاً شديداً في الاستشهاد به بين الحين والآخر. بعد رحيله، وبينما كانت زوجته ابتهال يونس تنظّم أوراقه، وجدت هذه القصيدة التي كتبها بعد رحيل نزار قباني. لم تكن بالعامية (المحكية) بل بالفصحى. مفاجأة أخرى من مفاجآت أبو زيد التي لا تنتهي ننشرها هنا لقيمتها التوثيقية أولاً.
تصبحين سوسنةً.
على جدار القلب تشرقين.
تنفجر الأزهارُ في الشرفاتِ والنوافذ.
فجأةً، يَخِيمُ صمتٌ لكنه عقيم.
***
جسدُك الملفوفُ في الوطنِ الكفن
تركوه ملقى على بوابةِ المسجد.
هل فطنوا أن إلهَ الدماءِ الذي يعبدون
كانتْ قد أَعْلَنَتْ موتَه قصائدُك؟
وأن أباريقَ الدماءِ التي توضأوا بها تهشَّمت؟
أم ترى كانوا يخافون أن تُطِلَّ عليهم من النعش
تلقي شعراً بعصاك؛ فيلقُفُ ما أَفِكُوا؟
***
هل جاء عصرُه قبل الأوان؟
هل حلّ في عيونكم
بين رعشة الحزن وإشراقة البكاء؟
وهل نسيتم في غمرة اندهاشكم
أن هكذا وصولَه يحقق النبوءَة التي
تحفظون سرها عن ظهر قلب؟
***
في ثوب شيخ عالم يأتيكم المسيح
يخبئ الحكايات التي تعرفونها،
يعيد ترتيبها، يبدأكم بالنهايات، تاركاً لكم سر البدايات؛
فتندهشون ويحكم
كأنكم
أجنة تصطرخون لحظة الخروج
كأنه
هو الذي صوركم في الأرحام كيف شاء
هو الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم.
***
لو تعلمون ما تخبئ الأقدار
لو تعلمون علم الغيب
ما لبثتم غارقين في الخداع.
***
قال لكم عن المسيح حين جاءكم:
«لو تفتشون في دفاتر الميلاد
فأمه يهودية
تنصرت في زمن الحاكم بأمر الله
ثم أسلمت لكي تكيد للإسلام؛
حملت به سفاحاً
ما بين أروقة المعبد والكنيسة،
ألقت به ملفوفاً في ثياب خضر
أمام باب مسجد
***
قال لكم فصدقتموه،
طوبى لكم،
طوبى لكم، وسوء مآب.
الموت الذي تكرهون حل في دياركم
وموسم الحكايات العقيم
قد دنا من الأفول،
لكنكم تأبون إلا الانخداع،
كأن في طباعكم شيئاً يقاوم المراجعة.
***
هل باغتتكم فجأة مخاطر العولمة؟
أم يا ترى اكتشفتم ـــ فجأة أيضاً ـــ ضرورة اللحاق؟
يا من تقيسون الزمان بالأشبار
وتجلسون بالساعات صامتين في انتظار «فيلم» السهرة،
وبالساعات يائسين في انتظار أن تهل طلعة المسؤول لافتتاح الملتقى،
كيف اكتشفتم فجأة
أن «الفمتو ثانيه»
أحدثَ إنجازاتِ العصر
مصنوٌع في مصر؟
أم أنها «العولمة» التي تخشونها؛ لأنكم إلى الأذقان غارقون في غرامها؟
لكنكم والعجز ينخر في عظامكم
أصابكم من الهذيان ما أصابكم.
وكل أقراص الفياغرا لن تعيد وعيكم.
أبناءَ «الاستنساخ» أنتم قبل عصر الاستنساخ.
***
وهل تصدقون حقاً أن الذي لفظتموه في المساء،
راجين أن يغيب في غياهب الفلاة، أو أن يقتله الديجور،
يمكن هكذا أن يُسترد في الصباح كاملاً؟
يا ويحكم، أليس ما فعلتموه كافياً مع ابن رشد؟
أحرقتموه حياً، حتى إذا اكتشفتم كيف ـــــ في رعاية الأغيار ـــــ أثار ما أثار،
تجاسرتم بالافتخار أنه من صُلبِكم.
يا ويحكم، يا ويحكم.
***
يا وردة المحاق
متى يحل بالديار صمتها العميق؟
صمتها الحكيم؟
متى نجيد الصمت، نرهف الأسماع لانفجار الياسمين؟
أو لانفراج ضوء الفجر ماسحاً أصباغ سيدنا المسيح؟
متى نرفع اللعنة النكراء عن وجه المسيح؟
فتستعيد الأرض خصبها،
وتشرقين من جديد،
سوسنةً،
على جدار القلب تشرقين،
تفجِّر الأزهار في الشرفات والنوافذ،
تفجِّر الأفراح في مواسم الحصاد.
(ليدن ـــــ هولندا، في 10/ 7/ 1998)