بيار أبي صعبليس محمد علي الأتاسي سينمائيّاً بالمعنى الأكاديمي. ولعلّها قوّة فيلمه «في انتظار أبو زيد» الذي يعرض اليوم مجدداً في بيروت، ضمن تظاهرة تكريميّة للمفكّر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد. يتعامل الكاتب السوري مع السينما وسيطاً، أو سلاحاً فكريّاً، وهي من الاستعمالات المنسيّة (أو غير الرائجة) التي يتسع لها الفن السابع بامتياز. مقاربة الأتاسي لموضوعه ديناميّة ونقديّة، ذاتيّة ومباشرة: هو يسأل ويعلّق ويتدخّل، والمعلّم يجيب. الآخرون أيضاً (رفيقة دربه ابتهال يونس، تلميذه النقدي محمد حاكم، والصحافي الذي يريد اصطياد أبو زيد ولمّا يقرأ له شيئاً...)، يجعلهم المخرج يتفاعلون مع الكاميرا. أما المشكلات التقنيّة الطفيفة، فعلامات أسلوبيّة فارقة تتسع لها بنية العمل، وقيمة مضافة لصيقة بـ«ميدانيّة» التجربة.
الكاميرا ترافق (تلاحق، تواجه...) المفكّر العقلاني الراحل الذي يبدو أشبه بالساموراي. نلمس، كل لحظة، كيف أن التفكير رياضته المفضّلة. نراه في مواجهة منتقديه وتاريخه وأدواته وامتحاناته الصعبة، في سجال دائم مع الذات والآخر. كأننا به يتلذّذ بالمحاججة والنقد العقلاني الهادئ وتفكيك الخطاب السائد، ويستمتع بتطبيق المراجع التي تتيحها معرفته الموسوعيّة، على الراهن الاجتماعي والسياسي والثقافي. أبو زيد الكريم والرقيق، يستحضر قصيدة لصلاح عبد الصبور، يتذكّر جنازة طه حسين المهيبة التي «خرجت من الجامعة». وحين يتحلّق أصحاب جدد من حوله في حانة الـ«بارومتر» ليردّدوا، وهو معهم، أغنيات الشيخ إمام، تتسرّب من عينيه «دموع الفرح».
منذ ذلك اللقاء البيروتي الشهير («مسرح المدينة»، 2004)، حين قال المعلّم أشياء مهمّة (من تاريخيّة النصّ إلى الحجاب في الإسلام)، إلى لقاءات عامة أخرى وحوارات تلفزيونيّة في أكثر من مدينة، مروراً بالمواجهات الثنائيّة... صوّر الأتاسي فيلمه على امتداد ست سنوات، وعرضه على صاحب «نقد الخطاب الديني» قبيل رحيله. لقطة باب مطار بيروت تعود كلازمة، إشارة إلى الانتظار. هناك أيضاً المشهد الذي يفتتح الفيلم ثم ينهيه: طاولة غارقة في الظلمة الزرقاء، خلفها كرسيان فارغان وعليها الميكروفون. خارج الكادر نسمع ضجة الجمهور، وننتظر أن يصل المفكّر.