اغتيال «الدستور» ليس الجريمة الوحيدة في مصر: فالمنع والتهديد والترهيب، آفات امتدّت إلى البرامج والقنوات والكتاب... والآتي أعظم!
القاهرة ــ محمد خير
كان خبر إقالة إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير «الدستور» لا يزال ساخناً، لكن أحمد العايدي، الروائي الشاب وأحد المشاركين في الإصدار الثاني للجريدة، قرر أن يجلب معه كاميرته إلى مقر الصحيفة. وبهدوء، راح يتجوّل بين المحتجين الغاضبين والمتعاطفين، ليصوّر بالفيديو مشاهداته: كتابات الجدران، ورسوم الكاريكاتور، والمكاتب المهجورة، والنقاشات الساخنة.
لم تكن 24 ساعة قد مرّت على إقالة صانع «الدستور»، حتى أدرك الكلّ الحقيقة: قد يستمر صدور «جريدة» «الدستور»، لكن «تجربة» «الدستور» انتهت بلا رجعة. أن تنتشل صحيفة يعني أن تنقذها من عثراتها. أما أن تنشل جريدة، فيعني أن تسرقها على غفلة من أصحابها. وللأسف، فالقوانين المنظِّمة للصحافة لا تعاقب على جريمة النشل، ولا حتى على جريمة الاختطاف إذا حصلت ضد مؤسسة صحافية. مؤسسة اختُطفت جريدتها وإصدارها من مكان مجهول بمحررين آخرين قبلوا التورّط في إصدار نسخة مزورة ومخجلة. هكذا صدر عدد جديد من «الدستور» بلا اسم رئيس تحرير، وبموضوعات مسروقة من محرري الصحيفة الأصليين. إنها جرائم مكتملة الأركان، تضمنت نقل الأجهزة، والاستيلاء على المادة الصحافية، وتهديد المحررين. ما حصل كان درساً نموذجياً في كيفية تحويل جريدة إلى جريمة في غمضة عين.
ولا يخفى على أحد أنّ هذا السطو قرار سياسي نفّذه «معارضون»، أي رئيس حزب «الوفد» السيد البدوي وشريكه رضا إدوارد الذي اشترى أسهم البدوي بعد انسحابه. ببساطة، إنها لعبة بينغ بونغ تُغيَّر خلالها ملامح صحيفة وتُقتل روحها.
في اجتماع منتصف الليل الذي فاوض خلاله السيد البدوي محرري «الدستور» على مطالبهم، فوجئ الحضور بوصول جميلة إسماعيل الناشطة السياسية والزوجة السابقة للناشط أيمن نور. قدمت إسماعيل للسيد البدوي عرضاً من مجموعة شركاء (بينهم جميلة نفسها ومحمد البرادعي) لشراء حصة رضا إدوارد في الجريدة. صمت السيد البدوي ثم اعتذر، مؤكداً أن شريكه لن يقبل البيع. وما لبث رئيس حزب «الوفد» نفسه أن باع أسهمه إلى إدوارد. والأخير كان قد أعلن أن رؤساء العالم لو اجتمعوا لن يجبروه على إعادة إبراهيم عيسى إلى منصبه. ثمّ رفض مطالب الصحافيين بعدما التزم بها أمام مجلس نقابتهم، معتبراً أن «شوية عيال» لن يفرضوا شروطهم عليه، ومتوعداً من لا «يلتزم» باتخاذ الإجراءات القانونية ضده!
والواقع أن الرجل نفسه لا يستطيع العودة عن قراراته حتى لو أراد. الصوت العالي محاولة للتغطية على حقيقة أنّ القرار سياسي، وما المالك الجديد إلا أداة تنفيذ.
من جهة أخرى، بدا واضحاً أن تمسّك المحررين بعودة إبراهيم عيسى ليس فقط لأنه مؤسس التجربة وصانعها، بل لأنه أهم ضامن لاستمرار السياسة التحريرية. وكما كُتب على «الدستور» أن تخوض تجربة أولى من نوعها، وهي أن تكون جريدة «مستقلة» في يد رئيس حزب، فقد كانت الأولى التي تواجه العصف الفج من قبل رأس المال. بعد ساعات من إتمام إجراءات نقل الملكية، لم تعد الجريدة نفسها: أقيل محررها وأصبح صحافيّوها غرباء، وبدأت حقائق الملكية تفرض نفسها. الجريدة ليست أقلامها ورسّاميها، بل هي مالكها أولاً وأخيراً. ما دفع نقابة الصحافيين إلى الانتباه ـــــ للمرة الأولى! ـــــ إلى أن انتشار الصحف الخاصة في مصر يستلزم تعديلات تشريعية تقلّص تأثير رؤوس الأموال على روح الصحف وخطها التحريري.

شهد حزب «الوفد» مجموعة من الاستقالات أبرزها للشاعر أحمد فؤاد نجم

والحقيقة أن القوانين غالباً ما تظل ـــــ من دون السياسة ـــــ حبراً على ورق، وما دامت اليد الخفية تتحكم في مقدرات السياسة المصرية، فالقوانين لن تجدي. مثلاً، في المرة السابقة حين أُغلقت «الدستور» عام 1998، لم يصدر أحد قرار إغلاق، بل جرى «منعها من دخول مصر» لأن ترخيصها أجنبي. هذه المرة أيضاً، فالنظام الحاكم «لم يغلق جريدة»، بل كانت محض عملية بيع، والشاري لم يكن حتى من الحزب الوطني، بل من حزب «معارض» هو «الوفد». ليس غريباً إذاً أن يشهد الحزب موجة استقالات أبرزها استقالة الشاعر أحمد فؤاد نجم، كذلك توقف كتّاب معروفون عن نشر مقالاتهم في صحيفة «الوفد».
والإحباط لا يبدأ وينتهي عند قتل «الدستور»، بل يمتد إلى «الوفد» العريق الذي كان حزباً كبيراً فصار أداةً كبيرةً. أداة خرجت على دعوات مقاطعة الانتخابات النيابية المقبلة ـــــ المزوّرة سلفاً ـــــ فإذا بـ«الوفد» يقدم مرشحين يزيدون على مرشّحي جماعة «الإخوان المسلمين». ليس على صحافيي «الدستور» إذاً أن يغضبوا. الأمر ليس شخصياً، وقتل صحيفتهم هو العنصر الأبرز، لكنّ الإيقاف والمنع والتهديد والترهيب تطال الآن برامج تلفزيونية وقنوات وكتّاباً في إطار تمهيد كبير لحدث يُراد له أن يحصل بلا أدنى مقاومة... لكن غداً لناظره قريب.


الملاذ الأخير

أعلن محرّرو «الدستور» اعتصاماً مفتوحاً في مقر نقابة الصحافيين، انطلق الثلاثاء الماضي. ويطالب المعتصمون بتطبيق تسعة بنود تتعلق باستمرار السياسة التحريرية للجريدة، وعودة هيئة التحرير الأصلية، وانتخاب مجلس إدارة جديد، ولائحة أجور جديدة. وكان رضا إدوارد قد رفض مطالب الصحافيين بعدما وافق عليها في الاجتماع الذي حضره نقيب الصحافيين مكرم محمد أحمد، السبت الماضي. وكان هذا الأخير قد أعلن أن أولويّته عدم تشريد 120 محرراً شاباً، ونصح إبراهيم عيسى (الصورة) باللجوء إلى القضاء، معلناً أنه «مستعد للذهاب معه إلى المحكمة»، وهو ما فُسِّر على أنه دعوة لعيسى إلى أن يطلب تعويضاً بدلاً من مطلب العودة إلى رئاسة التحرير.