Strong>موعد أخير في بيروت قبل الإسكندريّة والقاهرةرهان جريء ذلك الذي تطلقه شركة «إيقاع»، من خلال فرقة مفاجئة ومتعددة المشارب اسمها «كزا مدى». دنيا مسعود وتامر أبو غزالة ومحمود ردايدة وزيد حمدان يمزجون بين أنماط مختلفة، في مشروع صادم ونافر، ومستفزّ بعض الشيء. محاولة، من خارج الـ«بوب النمطي»، لاستكشاف فضاءات جديدة للموسيقى العربية

هالة نهرا
لم يخلُ الجوّ، أوّل من أمس، في نادي «موجو» البيروتي، من غرابة مردّها إلى البرنامج الموسيقي القائم على خليط غير مألوف. للوهلة الأولى، تخال أن لا شيء يجمع هؤلاء الموسيقيين، وأنّ فرقة «كزا مدى» تغرق في التجريب. ثمّ لا تلبث أن تغيّر رأيك، مكتشفاً أنّك أمام تجربة تستحقّ التوقّف عندها. لأنّك ربما لم تعتَد الاستماع إلى مزيج يشتمل على الموسيقى الإلكترونية، والروك، والعربي (التراثي والمعاصر)، والصوفي، والشرقي... تحتاج إلى وقت لتقبّل التجريب، من دون استغراب أو إطلاق أحكام سريعة. ربّما لأنّ تجاور تيمات مهجّنة، وتوليفات جريئة ولمّاحة، يجعل «المشهد» السمعي أعقد ممّا تتصوّر.
هذا ما يتراءى لك في البداية، وخصوصاً إذا كنت محمّلاً بهواجس عن هوية الفرقة، وبعض الأفكار المسبقة. المهم أنّك تستسلم لاشتعال داخليّ سريع بعد دقائق معدودة، وتتكيّف مع الأجواء الجديدة. فرقة «كزا مدى» تحمل جديداً إلى الموسيقى العربية المعاصرة، ما يجعل مشروعها صادماً، ونافراً، ومستفزّاً بعض الشيء، وهذه هي حال كلّ جديد قبل أن تعتاده. يتميّز برنامج الفرقة بهامش مخصّص للارتجال، وفسحة للّعب والإفلات من ضوابط الموسيقى التقليدية. دنيا مسعود، وتامر أبو غزالة، ومحمود ردايدة، وزيد حمدان، كانوا يلعبون. مارسوا ألاعيبهم الصوتية والأدائية المسلّية، وتلطّوا وراء التجريب. لا بأس بذلك، إذ إنّ جنوحهم إلى الدمج يستند إلى التجريب أكثر من التقليد.
هامش مخصّص للارتجال، وفسحة للإفلات من ضوابط الموسيقى التقليدية
الإقدام على مشروع مماثل، تطلّب حتماً الكثير من الشجاعة. في التجريب مراهنة إمّا أن تخسرها وإما أن تربحها. لا شكّ في أنّ مؤسّسة «إيقاع» ربحت رهانها على مشروع «كزا مدى». التعاون بين «إيقاع» وفنّاني هذه الفرقة ليس جديداً. سبق أن اطّلعنا على تجربة الفنّان الفلسطيني تامر أبو غزالة (راجع عدد «الأخبار» في 22 أيلول/ سبتمبر 2010) الذي دأب على التأليف والتلحين والعزف (عود وبزق)، واشتهر بأغنية «تخبُّط». لا يمكن تصنيف أغنياته وإدراجها في خانة محدّدة. لعلّه يلامس التجريب الملتحف بهوية شرقية وعربية لا لُبس فيها. أمّا «بنت النيل» دنيا مسعود، فعُرفت بإحيائها الفولكلور المصري الخام. افتتحت البرنامج الرمضاني لـ«مسرح المدينة» (في 19 آب/ أغسطس 2010)، حيث قدّمت التراث المصري المتأرجح بين الأفريقي والشرقي/ العربي. لدنيا مسعود تجربة يتيمة في معترك «الفيوجن» مع فتحي سلامة (مؤسّس فرقة «شرقيّات»). كان صعباً عليها في البداية أن تتقبّل فكرة الخليط الموسيقي «غير المتجانس الذي يضمّ آلات كهربائية وممكننة»، كما صرّحت سابقاً. يبدو أنّها عدلت عن رأيها، وعادت لتنخرط في مشروع الدمج والتجريب. دنيا تملك صوتاً هادئاً ونديّاً (وصادحاً عند اللزوم)، وتجمع بين التراثي والمعاصر، والتمثيل والغناء. حضورها إذاً ليس صوتيّاً فحسب، بل إنّه «درامي وأدائي شامل».
من يراقب الفرقة عن كثب، يلحظ درجة التفاعل العالية بين أعضائها، وتواطؤاً فنّياً بين مسعود وتامر أبو غزالة. هذا التجانس يتبدّى تدريجاً، ويظهر أيضاً بين محمود ردايدة (غيتار كهربائي) وزيد حمدان (غيتار كهربائي، ورِقّ، وclaves، وsynthétiseur...). الموسيقي الأردني محمود ردايدة، آت من تجربة فنّية مختلفة. قبل أن ينضمّ إلى «كزا مدى»، كان عضواً في فرقة «جدل»، علماً بأنّها من أولى فرق الروك العربي. ذائقته وثقافته الغربيّتان لم تبعداه عن الموسيقى العربية، الأمر نفسه ينطبق على اللبناني زيد حمدان (مؤسّس فرقتَي «سوب كيلز» وNew Government). إضافةً إلى أغنيتَي «جايي لعنّا» (كلمات وألحان محمود ردايدة)، و«مش مهمّ» (كلمات الزميل الشاعر محمّد خير، وألحان تامر أبو غزالة)، أدّت الفرقة «أيّوب» (فولكلور مصري)، و«حوّل يا غنّام» (من فولكلور بلاد الشام)، و«حلم» (مونولوج من كلمات المعلّم المصري نجيب سرور، وألحان أبو غزالة).
الحصّة الكبرى من الغناء المنفرد كانت لدنيا مسعود. فرقة «كزا مدى» التي تقدّم حفلةً مساء اليوم في مطعم «وليمة»، تعوّل على صوت دنيا نظراً إلى حساسيّتها الشرقية، وقدرتها على تأدية المقامات العربية. تجلّت مسعود في «على اللّه تعود» (لوديع الصافي، مقام الراست) و«حوّل يا غنّام» (مقام نكريز)، على رغم أنّها لم تتمكّن من ضبط مخارج الألفاظ باللهجة اللبنانية. خرجت دنيا عن النغم أحياناً، وخصوصاً في الطبقات العالية والخواتم المقامية الحاوية لثلاثة أرباع الصوت، ثمّ عادت لتمسك بزمام الأمور كأنّ شيئاً لم يكن، ما ينمّ عن احترافيّتها. أمّا تامر أبو غزالة، فشارك في تأدية بعض المواويل، ولوّن وصلات الغناء بتقاسيم عصرية مبتكرة.
أغنية «قولو ليه» (كلمات وألحان زيد حمدان)، تتلفّف بالبوليفوني (أي تعدّد الأصوات)، وتحمل نفَساً أفريقيّاً يمتزج بالغوسبل، ما يكشف عن تنوّع الأنماط والهويّات الموسيقية في الفرقة. إعادة توزيع هذه الأغاني بما تتضمّن من تطعيم بالمؤثّرات الصوتية والروك (والهارد روك أحياناً)، لم تفقدها زهوها وهويّتها باستثناء «سيب إيدي»، إذ كادت تقع في مطبّ الهجانة.
محاولة السير على خطى تكوين هوية جديدة للموسيقى العربية، هي عملية تراكمية. ومع أنّ فرقة «كزا مدى» تؤكّد سعيها إلى إيجاد بديل للبوب العربي النمطي، إلّا أنّها لم تصل بعد إلى تحقيق أهدافها كاملة. لكنّ المؤكّد أنّها تقدّم جديداً في الموسيقى التجريبية العربية، وتستحقّ الثناء والتحية.... والمتابعة.

الليلة، عند العاشرة ـــــ «وليمة» (بيروت). للاستعلام: 03/628578
الحفلات المقبلة في الإسكندريّة («مركز الآباء اليسوعيين»: 29/ 10)، والقاهرة («أفتر إيت»: 30/ 10 ـــــ «كايرو جاز كلوب»: 1/ 11 ـــــ «مسرح الجنينة»: 4/ 11). التفاصيل على
www.eka3.org