عشرات المفكرين والعلماء يرصدون تشكلات الذات، وسط النزاعات الاقلوية وانقلاب المفاهيم القوميّة والهستيريا المضادة، في مؤلف جماعي صدرت ترجمته العربيّة في دمشق
خليل صويلح
أزمة هوية أم ارتحال هويات وتشييدها على نحو آخر بتأثير ما بعد الحداثة؟ وما تأثير الهوية الدينية في تكوّن الأفراد والجماعات؟ وما هو موقع الهويات الثقافية في قلب الفضاء العمومي؟ 40 مفكراً وعالم اجتماع أوروبياًً، يجيبون عن هذه الأسئلة في «الهوية والهويات: الفرد ـــــ الزمرة ـــــ المجتمع» التي حرّرتها كاترين آلبيرن وجان كلود روانو بوربالان (الهيئة السورية العامة للكتاب ـــــ ترجمة إياس حسن). نقع هنا على خريطة تشريحية لمعنى الهوية والعيش المشترك والعوامل التاريخية لنشأة الأفراد. وإذا كانت «الهوية الوطنية» تمثِّل مخيالاً واستراتيجية سياسية في مواجهة العولمة والنزعة الكوزموبوليتية، فإنّها في الواقع مجرد غطاء إثني لصراعات سياسية.
استيقظت النزعات الأقلوية بتأثير الحداثة والميديا الجديدة وانقلاب المفاهيم القومية. راحت تطالب بخصوصياتها وهويّاتها النائمة، ما وضع دراسات العلوم الاجتماعية في مأزق، نظراً إلى تعدد معاني الهوية. تقول كاترين آلبيرن «لكن أليس من الواجب الحذر من الهستيريا المضادة للهوية تماماً بمقدار الحماسة التي تحرّض عليها؟» يختزل عالم النفس الفرنسي بيار تاب العناصر المكوّنة للهوية الشخصية «بأن تكون شخصيتك المتفرّدة بين الجموع»، لكنه يؤكد صعوبة تحقيق «وحدة الكائن» بسبب الضغوط الاجتماعية والثقافية.
يؤرّخ محررا الكتاب الانقلابات التي شهدتها الهوية منذ مطلع التاسع عشر، فتبدو المسافة شاسعة بين «الولع بالرجولة» واقتحام الحركات النسوية مجالات العمل، كمحصّلة لشروخ ثقافية وإيديولوجية، قادت إلى فضح اللامساواة بين الجنسين، وانبثاق تيار المثليّة الجنسيّة الذي يدعو إلى تجاوز الثنائيات في «عملية تشييد اجتماعي للأجساد، وإعادة خلق العلاقات بين السلطة والحقيقة والرغبة»، وفقاً لأطروحات فوكو.
ويطرح الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في كتابه «عسر الحداثة» (1991) معضلات الهويّة الحديثة التي تتمثل في النزعة الفرديّة وأزمة المواطنة. ويؤكد الجانب المظلم من الحداثة كـ«فقدان المعنى، واختفاء الغايات...» وسجن الفرد في قفص حديدي عبر الاستخدام التعسّفي للعقل والهويّات العابرة للقومية.
الوشم كارتجال للجسد وانشقاق عن القيم الحضارية الحديثة
قلق الفرد المعاصر في تشييد هويته وإعادة تملّكه حياته المنهوبة، وضعه أمام أسئلة عسيرة في فهم الذات. لعل هذا ما قاده إلى اختبار هويّة جسده أولاً، بهدف الانتماء إلى زمرةٍ ما. وهنا يتساءل محررا الكتاب «الوشم والخرم... هل الأمر ارتجال هوياتي؟». الأرجح أنّ هذا الشغف بالوشم محاولة لصياغة الفرد لجسده، وعودة إلى ممارسات بدائية، وانشقاق عن القيم الحضارية الحديثة، وتبدّل أنطولوجي في تأكيد الاستقلالية. وتالياً «تنطوي الشارات الجسدية على رغبة جمالية في الحضور المختلف وإعادة تقديم الذات في زمر ترفض الهوية الجمعية». في الضفة المقابلة، سنشتبك مع رموز أخرى مثل «مشجعي كرة القدم» وأصحاب «الهويات الدينية» بوصفها تعبيراً مركزياً لأزمة الهوية في الدول ذات التوجه العلماني. وهذا ما نجده في الجاليات الإسلامية المهاجرة إلى أوروبا التي ترفض قيم الاندماج، وتسعى إلى فرض قيمها الدينية في مجتمعات تقوم على فكرة «الدنيوية». وإذا بها تخلخل فكرة التحديث الاقتصادي والعلمي، ما وضع العلمانية أمام أسئلة معقّدة تتعلق بفحص مقولة أن «الإسلام الإرهابي مقترن بالصراع ضد الحداثة»، لكنّه يقوم بفعل حداثي عبر اللجوء إلى معطيات الحداثة التكنولوجية. هكذا استيقظت «الذاكرة العائلية» لتشييد هوية الفرد في مجتمع آخر يراهن على النسيان.
هل المهنة هوية للفرد؟ يجيب عالم الاجتماع الفرنسي كلود دوبار «لا سوسيولوجيا للمهن، بل مقاربات أنتروبولوجية للزمر المهنية، إذ ينبغي أن نقرأ بعمق أبعاد الإضرابات العمالية كمرآة لهوية مهنية في الدفاع عن الكرامة الشخصية». لكن ماذا عن مهنة إشكالية مثل الدعارة؟ «إنها مجرد عمل، عاهرة هي مهنتي، لا أعرف كيف أفسّر ذلك»، تجيب عاملة جنس فرنسية. فيما يرى عالم الاجتماع الفرنسي دانيال ويلزر لانغ أن الدعارة هي «مسرَحة للجسد»، فهناك مناطق مسموحة وأخرى ممنوعة، وفقاً لشروط التعرفة، وحميمية بائعة الهوى، وهناك من يضع الدعارة في المهن النضالية رغم أنّها «موصومة بالعار».