صاحب «مجنون الأمل» يستعيد ذكرياته في السنوات الرماديّة. كتابه «شاعر يمرّ» الذي انتقل أخيراً إلى الضاد، عبارة عن يوميات راهنة، سرعان ما تتحوّل إلى سرد اجتماعي للتاريخ الشخصي في تقاطعه مع العام
محمود عبد الغني
كتاب تفيض على صفحاته ذاكرة تعجّ بالتجارب والمدن وأطياف رفاق عبروا إلى ضفاف أخرى. هكذا يمكن أن نلخّص كتاب عبد اللطيف اللعبي «شاعر يمر» (دار ورد ـــــ دمشق، تعريب روز مخلوف). إنه كتاب يوميات وسيرة. يبدأ اللعبي كتابة يومياته بتاريخ 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2007، لينهيها في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه. يمثّل التاريخ الأخير نقطة تحوّل في نوع الكتابة، إذ اختار الشاعر أن يبدأ بعده سرد سيرته الذاتية، مستغنياً عن طابع اليوميات... بين صفحة وأخرى، يكتشف القارئ أنّ البطل هنا ليس الشاعر، بل القرن العشرون، بوصفه مسرحاً حياً لكبريات معارك التحرر. ينجز صاحب «مجنون الأمل» هنا سيرته، مع عناية فائقة بالتصوير والتحليل واستخلاص النتائج.
سيرة بطلها القرن العشرون كمسرح حيّ لأكبر معارك التحرّر
في تاريخ 25 ت1 (أكتوبر) مثلاً، يسجل وقائع رحلته الخاطفة إلى لوكسمبورغ من خلال دعوة وجهها إليه الشاعر جان بورتانت ليحل ضيفاً على أسبوعية Le Jeudi (الخميس)، وإلقاء محاضرة عن موضوع «أوروبا كمبتغى». وجد اللعبي في انتظاره جمهوراً «مجرداً من تقلّبات المزاج التي تواجهني في لقاءاتي مع الجمهور في الجانب الآخر من المتوسط، وفي المغرب على الأخص».
يقف الكتاب أمام سؤال الزمن والعمر: «وصلت إلى عمر باتت فيه الأسئلة التي كنا نطرحها في السابق لشق درب للتفكير أو لإطلاق تحدّ ما، باتت من الآن فصاعداً تحتاج ولو إلى بداية إجابة». أصبح الزمن معنياً مباشرة بالجسد الذي يتغير مستسلماً لجريان النهر العظيم. فكيف الإجابة عن هذا السؤال الصعب؟ يستخلص الشاعر بمرارة: «هكذا لم أعد أتقدم. وبدلاً من اتباع الخط المستقيم، يميل فكري إلى الجري في حركة لولبية، الشكل المميز، على ما يبدو، للفكر الشرقي. ليكن».
بعد سيل من الأسئلة المرهقة، يهجم الحنين إلى البلد الأم: «منذ أسبوعين، بدأت أشعر بالحاجة إلى أن أكون في المغرب. لدي ما يشبه رغبات امرأة حبلى، يمكن أن تدور حول طبق طعام معين، أو فاكهة في غير موسمها».
تنتهي اليوميات، ويدخل الشاعر من دون سابق إنذار في سرد استرجاعي. ولم ينتبه إلى هذا المنعطف، إلا على عتبة نص «الحقيبة الحمراء». يكتب: «توقفت يومياتي فجأة في ديسمبر الماضي، واتخذت منعطفاً غير متوقع. أين كنت يا ترى؟ وما الذي حدث؟ سفر، أسفار. هل وقع عطل في الكتابة أم إضراب متعمد عنها؟ هل هو شك جدي في ضرورتها أم مجرد تعب في الروح؟».
يستذكر اللعبي المغرب ومرحلة الاستعمار الفرنسي، ومدينة فاس: «لا بأس بالقول إن علاقتي معك يا بلدي العزيز قد تدهورت بعض الشيء». يتحدّث هنا عن مرحلة مجلة «أنفاس»، ومعركة إطفاء الشمعة التي تضيء مرحلة السجن والشعر، و«قصائد تحت الكمامة»، ورواية «مجنون الأمل».
حين يبلغ لحظات الذروة، يبدأ الشاعر بمساءلة لحظات تاريخية مضت. هنا يعود الشاعر إلى جرحه الأصلي، إلى مغرب سنوات الرصاص، وانتمائه إلى المنظمة اليسارية المحظورة «إلى الإمام». تلك المرحلة التي كان يكتب فيها بأسماء مستعارة، أحدها «الأندلسي».
«شاعر يمرّ» هو كتاب الألم، والأشياء المفقودة، والأمكنة المجروحة. وأول تلك الأمكنة مدينة فاس، مسقط الرأس، والقدس في «صباح الخير يا قدس»... وأصدقاء أيضاً منهم محمود درويش وإدريس الشرايبي وآخرون.