القاهرة ـــ محمد شعير
لم يترك لنا صيف القاهرة فرصة لالتقاط الأنفاس. رحيل جديد يضاف إلى القائمة الطويلة التي دقّ بابها الملاك الأسود في الأسابيع الماضية. جيل كامل يبدو كأنّه يسلّم أوراقه: من المفكر نصر حامد أبو زيد إلى الشاعر عفيفي مطر والناقد فاروق عبد القادر، وصولاً إلى محيي الدين اللباد (70 عاماً). التشكيلي المصري أغمض عينيه أول من أمس بعد رحلة «قصيرة مع المرض»... ورحلة طويلة مع الاكتئاب الذي كانت ساعات العمل العشر، يومياً، علاجه الوحيد.
لكن من هو اللباد؟ هل هو صانع كتب؟ أم رسام كاريكاتور؟ أم مؤلف كتب للأطفال؟ أم مصمّم غرافيك؟ كان يرفض أن يسجن في خانة واحدة، معتبراً أن تلك المجالات يكمّل بعضها البعض الآخر. براعته في الفن توازي براعته في الكتابة، وقلّما يحدث ذلك مع فنانين ورسامي كاريكاتور. حتى إن ناقداً مثل علي الراعي وصفه بأنّه «رب الريشة والقلم». كان مشروع اللباد الأساسي في كلّ ما كتب ورسم وصمّم «تربية الذوق» أو «تثقيف العين». وهذا ما عكسه في مشروعه الكبير «نظر»، وهي كلمة أخذها من قصيدة لبشارة الخوري، غنّاها محمد عبد الوهاب: «إن عشقنا فعذرنا أنّ في وجهنا نظر».

حتى عندما كان يشعر أنه يحرث في أرض بور، لم يكن محيي الدين اللباد يفقد الأمل. اتجه بالكتابة إلى الأطفال باعتبارهم الجيل القادم. فـ«معظم الرسائل البصرية المحلية تفتقر أساساً إلى المعنى، بما يحوّلها في الأغلب إلى رسائل مفككة غير مترابطة»، كما كان يقول. «الطفل الذي يتلقى علامات الاتصال السائدة الآن، يجعلني أفكر كثيراً في كيفية بنائه لذاكرته البصرية، وما لها عليه من تأثير سلبي في مراحل متقدمة من عمره». من هنا، كان اهتمامه بتقديم كتب غير قصصية للأطفال «حكايات بالكلمة والصورة والرسم».
في «كشكول الرسم»، قدّم اكتشافات رسّام وصانع كتب عجوز لقرّائه الصغار، على اعتبار أنّهم قد يقومون برحلته نفسها في الحياة. وعن القضية الفلسطينية أنجز «30 سؤالاً»، وفي «لغة من دون كلمات»، تتبّع العلامات والإشارات المرسومة على الورق والحيطان. أما في «نظر» الذي صدرت منه خمسة أجزاء، فجمع أعمالاً ونشاطات تتوجه إلى العين تحديداً. اهتم بلغة البصر التي أصبحت «اللغة الإنسانية العالمية التي يمكن أن يتواصل بها الناس على اختلاف لغاتهم الشفاهية والمكتوبة، وهذه اللغة تحتاج إليها البلاد حيث تنتشر الأمية مثل بلادنا». هذا ما كتبه في مقدمة العدد الأول من «نظر».
يتجلى هاجسه هذا أيضاً في رسومه الكاريكاتوريّة: هي رسوم ضربات قاسية تخلو في معظمها من التعليق، تعتمد على إدراك المفارقة عبر النظر من دون حاجة إلى الكلام. وإذا اضطر إلى أن يكتب شيئاً، يبدو تعليقه خاطفاً، لا يقصد أن يسمعه أحد. لا يمكن أن ننسى مثلاً يوم قدّم رؤية جديدة للجنيه المصري، إذ رسم أربعة مواطنين واقفين أمام المسجد الموجود في صورة الجنيه... الأول يقول: «حسنة صغيرة تمنع بلاوي كبيرة»، ويتبعه الثاني قائلاً: «عشانا عليك يا رب»، وتتوالى التعليقات: «الكريم لا يضام، يجعل بيت المحسنين عمار»... دائماً الجملة المكثفة، حاملة المعاني، تلك التي تجبرك على الضحك من دون افتعال.
كاريكاتورات اللباد أقرب ما تكون، حسب علي الراعي، إلى نظرة برنارد شو إلى فن الكوميديا: «نميل إلى تصوير الحماقة والحمقى، ونسعى إلى عرض نوادرهم على الأنظار في مختلف أشكال التعبير: الرسم، والمسرح، والحكاية والكرتون. ويلاحظ أننا بهذا الاهتمام نرفع عن أنفسنا الاتهام بأننا قد نكون بدورنا حمقى، لكنّنا لا نريد أن نعترف بهذا (...) الواقع أننا كلنا حمقى ولا مجال للتفضيل بيننا وبين غيرنا في هذا المجال».
ما فعله اللباد في الكاريكاتور فعله أيضاً في مجال تصميم أغلفة الكتب. قبله، كان الناشرون يهتمون بمحتوى الكتاب، وكانت التصميمات الداخلية والغلاف تأتي في المرتبة الثانية. عندما خاض اللباد مجال تصميم الكتب، قلب الموازين، من خلال صناعة أغلفة كتب يمكن اعتبارها نصاً بصرياً موازياً للنص المكتوب. لكنه نصّ مكثّف وموحي، يمهّد للكتاب، ولا يفضح سره أو يكشف شفرته. يلتقط من النص مفردات تبدو عابرة، لكنها هي النص نفسه، ولعلّ بين الأمثلة الأكثر تعبيراً عن ذلك زجاجة الكوكا كولا على غلاف رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم.
شُغل اللباد بسؤال الهوية في مجمل أعماله، بموازاة اقتناعاته السياسيّة وخياراته الفكريّة. اشتغل على الجماليات المنسية في الفنون العربية: اختار الخط العربي نموذجاً للجمال، وضع شخصية علاء الدين في مقابل شخصيات المانغا اليابانيّة، مثل مازينجر العظيم، وتنبّه إلى الرسوم الشعبية البدائية على جدران البيوت الطينية في الريف، وإلى أبطالنا المنسيين مثل الظاهر بيبرس، وإلى مفردات البيئة العربية. من كتبه الجميلة، واحد يحمل عنوان «تي شيرت»، يتأمل فيه الرسوم المطبوعة على القمصان القطنية التي يرتديها الشبان، وكلها رسوم أجنبية. هنا يقدم اقتراحات لكي «يصبح تاريخنا على صدورنا» بدلاً من التقليد الأعمى ومن دون ابتذال. وهكذا كان يمكن أن يسخر من إعلان نشرته جريدة «الأهرام» لمصلحة «هيئة الكتاب المصرية» تدعو المؤلفين العرب إلى استحداث شخصيات عربية «ميكي ماوس»... كأن كل شخصيات الحيوانات المرسومة للأطفال اسمها «ميكي ماوس» أو أنّ هناك تكنيكاً اسمه تكنيك «ميكي ماوس».
ويلاحظ المعلّم الراحل في أحد الحوارات الصحافية: «الشخصيات الكرتونية الذائعة الصيت التي انتشرت في أنحاء العالم، لم تقرر سلفاً، ولم تصمم كشخصيات «وطنية» أو «عالمية» لتكتسح وطناً أو دولة. فقد نالت كل الشخصيات المرموقة شهرتها وذيوعها عن طريق الاختيار الحر المباشر للجمهور، ولم يكن أحد ممن ابتكروا أو صمّموا شخصيات مثل «ميكي ماوس» يعلم مقدماً بالنجاح الساحق الذي ستحقّقه تلك الشخصيات. ما زلنا نفكّر في موضوع مثل الشخصيات الكرتونية وغيره من الموضوعات بطريقة «التعيين»، لا بطريقة «الانتخاب المباشر الحر»».
بدء الصراخ
تتبّع العلامات والإشارات المرسومة على الورق والحيطان، وكاريكاتوراته أقرب إلى نظرة برنارد شو لفن الكوميديا

أغلفة الكتب التي صمّمها تقترح خطاباً بصرياً موازياً للنص المكتوب

هذا الدفاع عن الهويّة جعله يكتب أكثر من مرة، موضحاً الفرق بين الرسم العربي والآخر الأجنبي: «إنّنا نكتب من اليمين إلى الشمال. وبالتالي، نرسم ونتفرج من اليمين إلى الشمال. واكتشفت أن أهل الغرب يرسمون صورهم ويتفرجون عليها من الشمال إلى اليمين، وبالتالي فإن الرسم الموفق بالنسبة إلينا هو ذلك الرسم الذي يكون مدخل الفرجة على يمينه».
لكن كيف استطاع اللباد أن يصل إلى تميّزه؟ ربما لأنّه لم يحلم إلا بأن يكون فناناً. لم تكن عائلته تخطط لهذا الأمر أو تتوقعه، حتى إنّه اضطر شاباً تحت ضغط منها إلى لالتحاق بكلية الطب لدراسة طب الأسنان، قبل أن يتركها في العام الجامعي الأول. لم يستطع الاستمرار لأنه كان قد حدد طريقه وميوله منذ الطفولة. هكذا التحق بـ«كلية الفنون الجميلة» في القاهرة عام 1957، وعمل رساماً في مجلتي «روز اليوسف» و«صباح الخير»، قبل أن ينهي دراسته الجامعية عام 1962. التشكيلي وفنان الغرافيك والرسام المصري الشهير ولد عام 1940 في حي المغربلين في القاهرة القديمة. كان طفلاً وحيداً لأهله بعدما توفي إخوته الخمسة. والده الأزهري ينحدر من قرية شباس الشهداء في مركز دسوق، في محافظة كفر الشيخ (شمال مصر تطل على البحر المتوسط).
التقط لوثة الفن في الحادية عشرة، حين نشرت جريدة «الأهرام» إعلاناً متقشّفاً عن قرب ظهور مجلة «سندباد: مجلة الأولاد في جميع البلاد» يرسمها الفنان (حسين) بيكار. عدّ «اللباد» المجلة رسالة شخصية عندما تلقّاها. «لم أعد الشخص الذي كنته قبلها، ولم تعد الحياة كما كانت من قبل». تلك كانت الإشارة الخفيّة التي أعلنت ولادته الثانية، وجعلته يكتشف رسالته: «الفن الذي يمكّنك من خلق عالم بهيج لأنه متّسق ومقنع وحقيقي»، كان يقول. منذ تلك اللحظة قرر محيي الدين اللباد أن ينذر نفسه للفن «المتسق والمقنع والحقيقي». ثلاث كلمات تختصر حياته الغنيّة التي أسدل عليها الستار أول من أمس.


شُيّع محيي الدين اللباد، أمس، إلى مثواه الأخير في مدافن الأسرة في الأزهر، على أن يقام العزاء في «مسجد عمر مكرم» في القاهرة مساء غد الثلاثاء


عمل اللباد رساماً للكاريكاتور أثناء دراسته الثانوية، قبل أن يتخرّج من «كلية الفنون الجميلة» عام 1962. تتلمذ على يد حسين بيكار (1913 ــ 2002)، أشهر رسامي الصحافة المصريّة في الأربعينيات والخمسينيات، ثمّ عمل مؤلفاً ورساماً لكتب «دار المعارف» وفي مجلة «سندباد» التي أصدرتها الدار، ومصمّماً ومديراً فنياً في العديد من المجلات والصحف المصريّة، إضافة إلى «السفير» اللبنانيّة. شارك في تأسيس «دار الفتى العربي» في بيروت عام 1975، وعام 1991 شارك في تأسيس «دار شرقيات للنشر»... كذلك صمّم عام 1992 مشروع «كتاب في جريدة» الصادر عن «الأونيسكو».