ينعاد عليك» مسرحيّة خارجة على السياق، يصعب تصنيفها على الخريطة الإبداعيّة. الممثلة اللبنانيّة وزميلها التونسي يوقّعان تجربة خاصة تستحق الاهتمام. الليلة في «مسرح بيروت»
بيار أبي صعب
تذهب إلى «مسرح بيروت» قبل كل شيء للقاء ممثلين ينبضان حيويّة. يارا أبو حيدر ووحيد العجمي ينقلان طاقتهما إلى المتفرّج كالعدوى. ومسرحيّتهما «ينعاد عليك» (العرض الأخير الليلة في بيروت) هي حكاية لقاء غير مألوف، بين ممثّلة لبنانيّة وممثّل تونسي. مناسبة لتذوّق العامية المترقرقة الآتية من بلد علي بن عيّاد. تلك اللهجة المسرحيّة بامتياز التي طبعت ذائقتنا منذ الثمانينيات ـــــ بفضل مجموعة فنانين استثنائيين أخرجوا الخشبة العربيّة من سباتها ـــــ تتواشج هنا مع اللهجة اللبنانيّة في احتفال مشهدي واحد. تتقاطع اللهجتان لتؤلّفا عنصراً دراميّاً موظفاً في سياق الاحتفال: يغذّي اللعب، وينسج خيوط الحكاية، ويعطي للعمل إيقاعه وألوانه ونكهته الخاصة.
الثنائي المسرحي الشاب حمل مشروعه بعناد مذهل. أبحر عكس التيار، واجه لامبالاة المدينة وقسوتها، وكميّة لا بأس بها من المصاعب. عاش تجربة لا تصدّق مع العنف الذي يطبع علاقة المثقفين هنا، في إحدى حانات شارع الحمرا. وها هو على الخشبة أمامنا، ليقول إن المسرح ما زال ممكناً في بيروت 2010، بل ما زال فضاءً ضرورياً لإعادة امتلاك العالم، ومساءلته، وتلمّس جراحه السريّة.
يارا العائدة من دراستها القاهريّة، ووحيد الذي يحمل إرث المسرح الطليعي التونسي، بكل ابتكاراته وانفلاتاته (وبعض كليشيهاته أيضاً). تكاد تضيع الحدود بين الممثلين والقصّة التي يحملانها. هناك لعبة متوازيات ممكنة بين لقائهما المهني الآن وهنا. ولقاء شخصيّتيهما، في مكان آخر: مطار هلسينكي. نحن معهما في فضاء افتراضي محايد، يتسع للغربة والفراغ والعزلة. الخشبة فضاء مقفل، يضع الرجل والمرأة وجهاً لوجه فوق أرض بعيدة تبدو «اختراعاً» دخيلاً في النهاية، رغم التفاصيل الكثيرة التي ينسجها الحوار حول المكان. شخصان غريبان واحدهما عن الآخر، سرعان ما نكتشف ـــــ كما في كلاسيكيات مسرح اللامعقول ـــــ أنهما زوج وزوجة. ابتداءً من تلك اللحظة تختلط الأزمنة، نقوم بجولات مكوكيّة، عبر تقنيّة الـ«فلاش باك»، بين الماضي حين تعارف منصور خبير الآثار ولينا الخيّاطة «بشهادة» خلال إحدى التظاهرات المساندة لفلسطين في فنلندا، والحاضر إذ يلتقي الزوجان، ويعلقان من دون تأشيرة دخول، في مطار المدينة التي تركا فيها ابناً، يحتفل الآن بميلاده السادس. نفهم من السياق أنهما انفصلا قبل 4 سنوات، فعاد كلّ منهما إلى حياته الأولى، هو في تونس وهي في بيروت.
ما سبق ليس إلا ذريعة، ما هم إن كانت مقنعة، متماسكة، حاملة خطاب في النهاية. الخطاب في مكان آخر. كما لدى بعض كبار المسرح التونسي، يبدو النص المكتوب مجرّد حاملة للنص المشهدي، مبرراً للتمثيل وتحرير الطاقات الكامنة، وخلق المناخات البصريّة، ورسم الشخصيّات، وتشكيل الحالات والمواقف والمشاهد، وتداعي الصور والحكايات، الاكسسوارات والكلمات. الحوار الحقيقي «جسدي» بين يارا ووحيد في علاقتهما بالفضاء والجاذبيّة. والحجر الأساس في «ينعاد عليك» هو الأداء الميكانيكي، البلاستيكي، الذي يجمع بين الحركة والإيقاع والصوت والكلمات والظلال. وهنا تكمل قوة العمل ربّما، وما يوفّره لنا من متعة.
مناخات العبث تختلط أحياناً بالقفشات الكاريكاتوريّة في عمل يارا أبو حيدر ووحيد العجمي. الشاعريّة المشهديّة تترك أحياناً مكانها لواقعيّة محيّرة. اللعبة العبثيّة المشدودة تتّكئ فجأة على عناصر سرديّة، تغريبيّة، مثل صوت الراوية المسجّل واستعمالات شاشة الفيديو. مسرح الحركة يتقاطع مع مسرح الصورة. ذلك أن هذه التجربة التي تحمل بصمات العمل الجماعي، تعكس تأثرات مختلفة، نصاً وإخراجاً وأداءً، من دون أن يلغي ذلك حضور الممثلين، وطواعيّة النصّ، وسيطرة المخرج على أدواته ليبلغ ذروة مؤثرة في بعض المشاهد (نفكّر مثلاً في التوظيف المشهدي لأغنية الهادي الجويني). المسرحيّة التي شاهدناها في «مسرح بيروت»، هي وثيقة ولادة، وإعلان وجود، ومنجم من اللحظات والاكتشافات الصغيرة.

«ينعاد عليك»: الليلة عند التاسعة ـــــ «مسرح بيروت» (عين المريسة): 01/363328
(نصّ وأداء: يارا أبو حيدر ووحيد العجمي، سينوغرافيا وإخراج: وحيد العجمي، إدارة إنتاج: زيكو هاوس، تنسيق إنتاج: كارول عبّود، تنسيق موسيقى: باسل قاسم/ فكتور بريس، أزياء: يارا أبو حيدر، إضاءة: وحيد عجمي، فيديو: رامي نيحاوي...)