ترصد الكاتبة المعروفة في روايتها الجديدة حقبة سوداء من تاريخ الجزائر وحربها الأهلية. إنّها سيرة «لخضر» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) الذي انتقم من الفقر وصار عميلاً للسلطة وفقد إنسانيته
ماجدة حمود
ثمة ظاهرة تدعو إلى التأمل في الرواية النسوية، هي هيمنة صوت المرأة وهمومها على الفضاء الروائي! إذ قلما نجد كاتبة عربية تنطلق بروايتها إلى فضاء أوسع يتجاوز هذا الصوت، فنعايش عبر شخصياتها هموم الوطن وانكساراته! لهذا بدت لنا الروائية الجزائرية ياسمينة صالح (1969) صوتاً متميزاً، يحاول البحث عن فضاء أوسع للرواية العربية. فقد قدمت ـــــ عن وعي أو ربما عن غير وعي ـــــ نبض الحياة اليومية للإنسان العربي البسيط وهو يصارع الفقر والإحباط والتسلط، فيدمر هذا الصراع إنسانيته، ونحس بأنه محاصر بالقهر والفساد من دون أمل بالخلاص!
بدأنا اليوم نلاحظ تحرّر الرواية النسوية العربية من تلك اللغة حيث تُحصر المرأة غالباً في عالم الأنوثة والقهر الذكوري! بل أصبحت تعي أن سيرتها الذاتية هي جزء من سيرة الوطن، وتنتبه إلى أن القهر الممارس على الإنسان العربي تصيب شظاياه المرأة والرجل معاً! لكنّ ياسمينة صالح في روايتها «لخضر» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــــ 2010) اختارت تغييب صوت المرأة، لتقدم صوت رجل، نعايش عبره همّ استباحة الوطن، وقهر الفقر وانكسار الأحلام، وآلية تحول الإنسان الفقير إلى مفصل مهم من مفاصل الفساد ثمّ الإرهاب! هنا نتساءل: لماذا لم نجد المرأة شريكةً للرجل في هذا التحول؟ هل تنزّه الكاتبة المرأة عن حمأة الفساد! ترى هل الفساد حكراً على الرجل؟
لقد باع لخضر روحه لشيطان السلطة المستبدة مثلما باع فاوست روحه لمفيستو! فمثّلت هذه الصفقة خلاصاً للخضر من الموت جوعاً وقهراً، ولا سيما بعدما داس رأسَه «أحد رموز الاستبداد» وهو ضابط في الجيش وخطب حبيبته نجاة!
جاء صوت المرأة سطحياً في الرواية، وملامحها باهتة
هذه الصفقة لن تحرّر لخضر، بل ستوقعه في مستنقع العبودية. إذ سرعان ما يكتشف المتلقي أنها دمرت إنسانيته، فقد أصبح لخضر آلة تخدم الفساد وعيناً للسلطة المستبدة، لا هدف له سوى كتابة التقارير التي تسيء إلى الأحرار! هكذا تصاب الشخصية بعمى الانتقام. تضع صاحبة «وطن من زجاج» لخضر ضمن ظروف بائسة، تضمن في البداية تعاطف المتلقي مع الشخصية، فقد دمر القهر الأسري والمادي روحه، فاختل توازنه! إذ فقد أمه منذ كان طفلاً صغيراً، فتولت زوجة الأب الإمعان في قهره. ثم أُخرج من المدرسة، ليعمل حمالاً في الميناء مع والده الذي يستولي على راتبه، كي يعول أولاده من زوجته الجديدة! وسيزداد إحساسه بالقهر إثر فشله في الحب. لهذا، كان منطقياً تحولّ الشخص المقهور الذي داسته الأحذية إلى آلة للقهر والدمار، يدوس الآخرين، وبذلك باع إنسانيته لشيطان السلطة والمال!
صاحبة «حين نلتقي غرباء» تتابع في هذه الرواية حقبة سوداء في تاريخ الجزائر، توزع فيها الكثير من أبنائها بين قاتل ومقتول! كان الصراع بين قوى تدمر الوطن وتتاجر باسمه سمعنا صوتها وآلية تفكيرها، وبين قوى تريد الحفاظ عليه نقياً، قوياً، يقاوم تلك الردة التي تزكي نار الصراع، وتجعل من أبنائه حطباً له! كان تجار الوطنية من الأغنياء والفقراء الحالمين بالخلاص من فقرهم بأي ثمن، هم من تربّع على رأس السلطة، وخطط للعبث بالوطن! لهذا وجدنا الفقير لخضر يحدد وجهة طموحه بامتلاك السلطة التي تعني الجاه والمال!
صحيح أن ثمة أصواتاً أخرى في الرواية تعي حقيقة الصراع وتمثّل نقيضاً للخضر. لكنّ صوت لخضر هيمن على الأصوات الأخرى في الرواية. وكنّا نتمنّى لو أفسحت الكاتبة للأصوات النقيضة له المجال للتعبير عن ذواتها، فنتعرف إلى خلجات نفسها مثلما أتاحت الكاتبة للبطل! حتى ابنه حسين الذي أنجبه من امرأة عرجاء تزوّجها، سرعان ما يتعرض لعمل إرهابي، يُدخله في غيبوبة، فيختفي صوته، مع أنّه مرشح للمواجهة الفكرية والأخلاقية! فقد أدى ظهوره في حياة لخضر إلى تغييره، وعودة إنسانيته إليه، بعدما ضيّعها في زحمة الكراهية والانتقام وجمع المال. فقد أيقظت مشاعر الأبوة إحساسه بالآخرين، مثلما أيقظت ضميره الذي جمّدته أيام القهر والرغبة في امتلاك السلطة!
وكذلك، كان صوت المرأة سطحياً، فبدت لنا ملامحها باهتة، وأفكارها مكبوتة، كأنها وجدت لخدمة بشاعة الشخصية، وتأكيد قهرها! حتى إنّ الكاتبة جعلت المرأة العرجاء عقوبةً للخضر، فنزعتها من سياقها الإنساني، وخصوصاً حين لم تمنحها الفرصة للتعبير عن أعماقها! كأن كلّ الشخصيات في الرواية ــــ سواء الذكورية أو النسوية ــــ تدور في فلك لخضر، وهي تابعة له. فلم نجدها تواجهه، أو تقف نداً له، بل كانت تؤدي دوراً مرسوماً مسبقاً يعزز انتصاراته، أي خساسته!
لقد أنقذ الرواية من شبح الملل لغة الكاتبة الحارة، التي أمعنت في رصد أعماق الشخصية وقلقها، وتحولها من الحالة الإنسانية الطبيعية إلى الحالة السلطوية التي تدوس كل القيم، ثم ترصد حالة العودة إلى إنسانيتها مع ظهور مشاعر الأبوة! وخصوصاً أن الكاتبة أجادت لعبة التشويق منذ البداية، وتلمّح إلى التغيير حين يرى صورة ابنه، ويكتشف بشاعته، فيردد: «هل أنا مخيف إلى هذا الحد؟» فيتحمس المتلقي لمعرفة أسباب بشاعتها، فتأخذه الكاتبة في دهاليز نذالتها، كي يصل إلى حقيقتها في الفصل الأخير من الرواية!