الكاتب الذي ينتمي إلى جيل «الاختلاف»، يحفر في التاريخ الجزائري باحثاً، في روايته الجديدة «دمية النار»، عن مفاتيح لقراءة الراهن السياسي والاجتماعي في بلاده
صلاح حسن
كان بإمكان الروائي الجزائري بشير مفتي في روايته «دمية النار» (الدار العربية للعلوم ـــــ ناشرون»، بيروت/ «منشورات الاختلاف»، الجزائر) أن يطوّر التقنية التي بدأ بها الرواية، لو أنه تخلى في الفصل الثاني عن تقنية السرد والسيرة الذاتية بشكلها التقليدي المعروف، وخصوصاً أنّه في الفصل الأول، وهو قصير للغاية، يقدم بطل الرواية بوصفه شخصاً غامضاً لا أحد يعرف عنه شيئاً. أما الفصل الثاني من الرواية الذي يمكن عدّه هو الآخر روايةً قائمةً بذاتها، فيبدأ بسيرة لرجل منذ ولادته حتى موته الذي يستطيع القارئ أن يتخيله بسهولة بعد قراءة عدد قليل من الصفحات. كل شيء واقعي في الرواية بدءاً من الحكاية وانتهاءً بالزمن واللغة، حتى لتبدو بعض الوقائع وثائقية في طريقة عرضها.
تتحدث الرواية عن المرحلة التي تلت الاستقلال في الجزائر، وتسلّم هواري بومدين السلطة، والحرب الأهلية التي اندلعت بعد سنوات قليلة بين النظام وما كان يسمّى المجاهدين والثوريين الجدد بعد فشل المشروع الوطني وتنامي الديكتاتورية.
لكن هذا ليس سوى إطار عام لما تريد أن تقوله الرواية، فالحكاية الكبرى تكمن في التفاصيل الصغيرة التي سترد في الاعتراف الذي سيقدمه رضا شاوش. بطل الرواية يحكي سيرته الذاتية التي تروي ذلك الالتباس الذي حصل بعد الثورة والانتقال من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين أو حين يتحول المناضل إلى جلاد، ووحش يفتك بالجميع حتى بالمرأة التي أحبها.
عن تمزق الهوية وانقسام المجتمع
تنجح الثورة، لكن المجتمع الذي قاد هذه الثورة يفشل حين تتحول عائلة بكامل رجالها الذكور إلى جلادين بدءاً من الأب الذي يتقمّص دور الديكتاتور وانتهاءً بالابن الأصغر الذي يتحول إلى أداة في خدمة هذا القاتل غير المرئي. والد رضا شاوش يعمل مديراً لسجن يقطّع فيه أوصال ضحاياه، وهو يؤمن بقائد الثورة بطريقة لا فكاك منها. لكنه ينتحر في النهاية بعدما ادعى الجنون قبل ذلك، لأنّ الضحايا بدأت تحاصره في نومه وتقض مضجعه. الابن الأكبر يتولى منصب أبيه، ويحض الأخ الأصغر على الانخراط في جهاز الاستخبارات. هذه الحكاية تلخّص ما حدث في الجزائر خلال الثورة، وما تلاها من حرب أهلية كان خطط لها جيداً رجال شاركوا في الثورة، وهم اليوم يديرون الدولة أو الحكم من خلف ستار لا يعرف به أحد.
اختار الروائي بشير مفتي في عمله هذا تقنية محيّرة، أفادته من جانب وأخلّت بعمله من جانب آخر. لقد أراد أن يسلط الضوء على منطقة معتمة في تاريخ الجزائر وتعد من المسكوت عنه. وقد اختار شخصاً آخر ينوب عنه في طرحها هو رجل الاستخبارات رضا شاوش الذي كان في بداية الثورة مناضلاً (شهد شاهد من أهلها)، لكي يتجنب النقاش الذي سيدور بعد ذلك، أو أنه كان يريد أن يقول إنّه لا شك في كل الذي حصل. من جانب آخر، أخلّت هذه التقنية بالرواية لأنها أجبرت الكاتب على الالتزام بفكرة السيرة الذاتية التي لا تقبل التحريف، أو الإخلال بالزمن الفني. وكان بإمكانه أن يتحرر من هذا الالتزام ويلعب على محاور عدة متاحة، لكنه لم يستثمرها كما كنّا نتوقع في الفصل الأول الذي كان يمكن أن يكون ضربة الرواية الأولى الصادمة في ما بعد.
تفضح الرواية بما لا يقبل الجدل تمزق الهوية والانقسام الحاد الذي حصل في المجتمع الجزائري في تلك الفترة. ويتجلى ذلك في الأسئلة الكثيرة التي يطرحها بطل الرواية على نفسه، بعد كل جريمة يقترفها، من دون أن يجد أجوبة مناسبة لتساؤلاته التي هي أسئلة شريحة كبيرة من الناس في هذا المجتمع الذي فقد روحه في وقت يتعذر فيه وجود عيادة للطبيب النفسي.
ينجح بشير مفتي في هذه الرواية من خلال طرحه لقضية ظلت إلى فترة طويلة غامضة وملتبسة، هي مرحلة ما بعد الاستقلال، وما جرى خلالها وبعدها من أحداث تثير الشكوك والتساؤلات، وخصوصاً أنّ هناك الكثير من الكتّاب الجزائريين كانوا قد مجدوا هذه المرحلة كما لو أنّها كانت خالية تماماً من الأخطاء مهما كانت صغيرة. المهم من كل ذلك هو الاعتراف الخطير الذي يدلي به رضا شاوش عندما يصعد إلى الجبل لإقناع ابنه غير الشرعي بالتوقف عن القتال، والعودة إلى البيت، فيقول له: «لقد حكمناكم خطأً وعارضتمونا خطأً».