h1>بأربعة أفلام طويلة فقط دخل تاريخ الفنّ السابعانتظرناه في «مهرجان البندقيّة» الذي انتهى أول أمس، كما فعلنا في «كان» الربيع الماضي، لكنّ صاحب «أيّام الجنّة» تخلّف هذه المرّة أيضاً عن الموعد... في عمله الجديد، يحكي المخرج الأميركي الغامض، الآشوري الأصل، بأسلوبه التأملي المعهود، رحلة بحث عن الجذور، قد لا تكون غريبة عن سيرته الذاتيّة...

يزن الأشقر
لا يزال السينمائي الأميركي الأكثر عزلةً تيرينس ماليك (1943) يتلاعب بأعصاب معجبيه منذ أربع سنوات، حين أعلن بدء مشروعه الجديد «شجرة الحياة». كان يُفترض عرض The Tree of Life في «مهرجان كان» الأخير، و«البندقية» و«تورنتو» و«نيويورك» هذا العام، لكنّ الآمال خابت كلّها، إذ إنّ ماليك غير جاهز لعرض فيلمه كما نقل عنه. لكن الجديد هذه المرة جاء في إعلان شركة «فوكس سيرتشلايت» أنّها ستوزّع الفيلم في بداية عام 2011، وفي تاريخ تعلنه لاحقاً...
ليس الانتظار إذاً بجديد مع تيرينس ماليك، الذي أخرج أربعة أفلام روائية طويلة فقط خلال مسيرة عمرها 37 عاماً. أي إنّه تفوّق على ستانلي كيوبريك في التمهّل والبطء في إنجاز مشاريعه! بعد Badlands (أراض جرداء) سنة 1973، و«أيام الجنة» (1978)، سافر ماليك، ابن المهاجر الآشوري والأم الأميركيّة، إلى فرنسا واختفى عن الساحة السينمائية 20 عاماً، عاد بعدها بفيلم «الخط الأحمر الرفيع» (1998). وبعد سبع سنوات، قدّم «العالم الجديد». وفيلمه الجديد المرتقب سيكون حدثاً عالمياً نظراً إلى صورته التأملية العميقة.
بدأ ماليك بلفت الأنظار بعد عرض أول أعماله الطويلة «بادلاندز». في ذلك الفيلم، تتبّع قصة شريكين (مارتن شين وسيسي سبايسك) وجرائمهما في الغرب الأميركي في الخمسينيات من القرن المنصرم. وبيّن الشريط اهتمامه بالبعد الجمالي للصورة واستخدامه أسلوب السرد من خلال صوت خارجي لازمه في أفلامه اللاحقة.
صور سحرية وأسئلة عن العالم ومعنى الوجود
في «أيام الجنة» (1978)، نرى قصة حب تراجيدية تدور أحداثها في تكساس بين حقول القمح في العقد الأول من القرن العشرين. أما «الخيط الأحمر الرفيع» (1998) المبني على رواية الأميركي جيمس جونز، فسرد فيه قصة وهمية على خلفية «معركة غوادالكانال» خلال الحرب العالمية الثانية، وتناول الحرب ودمار الإنسان بمعناهما الوجودي والفلسفي. ترشّح الشريط لسبع جوائز أوسكار، لكنّه لم ينل أي واحدة، بل اكتسح فيلم ستيفن سبيلبيرغ الأقل جودة «إنقاذ الجندي رايان» سيرك الأوسكار، منتزعاً خمس جوائز. لكنّ شريط ماليك فاز بجائزة «الدب الذهبي» في «مهرجان برلين» عام 1999، ووصفه مارتن سكورسيزي بأنّه «فيلمه الثاني المفضّل لحقبة التسعينيات»، وصُنّف الشريط بأنّه أفضل فيلم حربي معاصر. ثم قدّم ماليك «العالم الجديد» (2005) بأسلوبه الشعري التأملي المعتاد، وبتصوير سينمائي ساحر، عن قصة المستكشف الإنكليزي جون سميث وبوكاهونتاس في القرن السابع عشر قبل استعمار أميركا الشمالية.
وإذا كانت الصورة التأملية تطبع أسلوب ماليك السينمائي، فربّما كان الأمر على صلة بتكوين هذا الفنّان الذي أحبّ الفلسفة منذ الصغر... ثم درس الفلسفة في جامعة «هارفرد» ودرّسها ونشر ترجمته لمقالة لمارتن هايديغر «جوهر المنطق».
ما يجمع بين أعماله هو الصورة السحرية، وتلك الأسئلة الوجودية التي يطرحها عن العالم والمعنى. في تعليقه على Badlands، قال ماليك إنه حاول إظهار فترة الخمسينيات في حدّها الأدنى... «فالنوستالجيا شعور قوي، تستطيع إغراق أي شيء. أردت أن يخرج الفيلم كقصة سحرية خارج الزمن، كجزيرة الكنز. أردت أن يخفّف هذا من حدة العنف مع إبقاء جودته الحلمية.» هذا التعليق يظهر واضحاً في «الخط الأحمر الرفيع»، إذ لم يكترث لإظهار العنف بطريقة مباشرة مبالغ فيها، بل ذهب عميقاً لدراسة الحالة الإنسانية من خلال الصراع عموماً، وخراب الإنسان وخراب العالم على يد الإنسان، وسط الطبيعة الجميلة المعبّرة عن كل الأسئلة الوجودية الدفينة.
في عمله المرتقب «شجرة الحياة»، تبدو المحاولة السردية السينمائية طموحة للغاية. فحسب المعلومات المتوافرة، فإنّ الفيلم يحكي قصّة عائلة قد تكون مستمدة من طفولة ماليك نفسه، تنتقل بين أجيال وفترات زمنية مختلفة... بحثاً عن الأصول. ذلك السؤال ربّما كان يسكن السينمائي المنحدر من عائلة جذورها ضاربة عميقاً في تاريخ الشرق القديم. فأبوه آشوري مهاجر من إيران إلى الولايات المتحدة حيث تزوّج من أمّه الأميركيّة.
ووفق ما جاء في بيان «فوكس سيرتشلايت»، الفيلم دراما عائلية في الخمسينيات، تحكي رحلة الابن الأكبر جاك (شون بين)، من براءة الطفولة إلى سنوات الرشد. وفي خضم محاولته لترميم علاقته المعقدة مع أبيه (براد بيت)، يجد نفسه ضائعاً في عالم حديث باحثاً عن أجوبة لمعنى الحياة، ومتسائلاً عن الإيمان. يتنقل الفيلم بين أزمنة عدة، منذ بداية الخلق، ويحتوي حتى على ديناصورات. من خلال ذلك التجوال في الزمان، يتناول المخرج مفاهيم فلسفية عن نشأة الحياة، من خلال التجربة الإنسانية في الحب والموت والخسارة والمعنى. ويجري الحديث عن شريط وثائقي مرافق للفيلم، عن تشكّل الكرة الأرضية ونشوء الإنسان.
«شجرة الحياة» مشروع ضخم بالتأكيد، بدءاً ببطلَي الفيلم براد بيت وشون بين. التصوير السينمائي بقيادة المكسيكي الشهير إيمانويل لوبيزكي الذي عمل مع ماليك أيضاً في «العالم الجديد»، ويشرف على المؤثرات الخاصة دوغلاس ترامبل أحد المساهمين الرئيسيين في اختراع تقنية الـIMAX، وكان قد عمل مع كيوبريك في تحفته «أوديسا الفضاء». حتى الموسيقى ألّفها الفرنسي الشهير اليكساندر ديبلا. أسماء مهمّة كهذه تثير لعاب عشّاق ماليك الذين يأملون ألّا يكون انتظارهم طويلاً.