ياسين تملالييا لِيُتْم العقلانية العربية وهي تنظر إلى ثلاثة من آبائها يُوارون في الترابَ في أقل من أربعة شهور: محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. يا لسوء حظ معتزلة القرن العشرين: هزمهم الموت من دون أن يكسبوا معركة «التنوير» في بلدانهم. بدأ المعتزلة قلةً قليلةً، لكنّ الزمن ـــــ على قسوته عليهم ـــــ كان أرقّ عليهم منه على خلفائهم المعاصرين. قالوا إن «القرآن مخلوق». مع ذلك، لم «يجمع العلماء» على تكفيرهم. معتزلةُ القرن العشرين لم تحمهم كثرتُهم (النسبية). بدأت محنتُهم حالَ تغريدهم خارج السرب. بعضهم كأركون، غادر بلَده طويلاً، ولمّا عاد إليه منتصف الثمانينيات مدعواً إلى «مؤتمرات الفكر الإسلامي»، فهم أنه لم يؤت به إلا ليُسبغ عليها صفة الشرعية الأكاديمية. البعضُ الآخر، كأبو زيد، أُجبر على اللجوء إلى المنفى بعدما كُفّر وطُلّق من زوجته بحكم سوريالي من محكمة سوريالية. ومن لم يتعرض للنفي كالجابري، لم يسلم من ألسنة المتطاولين.
سبّب المعتزلةُ «محنة ابن حنبل» وشارك بعض أقطابهم في «محاكم التفتيش» المأمونية. الجابري وأبو زيد وأركون، عكسَ ما يُروّج له بعض من يخلطون بينهم وبين غلاة «التنوير» التسلطي، لم يسبّبوا محنة أحد. لم يعذّب أحدٌ بسببهم، لكنّ براءتَهم لم تحمهم من إهانات أهونُها اتهامُهم بأنهم في خدمة الحكومات الجاثمة على صدور أوطانهم.
عاش المعتزلة في أوج مجد دولة تمتد أطرافها من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي. لم يكن فكرُهم، على أهميته، شرطاً ضرورياً لبقائها. مع ذلك، ما أعظم أثَرهم في تاريخ الدولة العباسية. معتزلةُ اليوم، ممن يغيّبهم الموت واحداً تلو الآخر، نشأوا في بلاد مستعمرة، العقلانيةُ فيها شرط أساسيٌ لنهضتها. مع ذلك، تبدو كتاباتُهم فيها ترفاً بالغاً إن لم يعدّها بعضهم كفراً لا عقابَ عليه سوى الموت.
انتُقد المعتزلة أشد الانتقاد، لكنّ بغداد في عهدهم لم تكن تحت سلطة بيزنطة، فلم يُجابَهوا إلا نادراً بأن فكرهم «مستوردٌ دخيل». أما ورثتُهم اليوم، فما إن ينطقوا حتى يهبَّ المتزمتون ليصفوهم بأنهم «رأسُ حربة الغزو الثقافي»، ناسين أن لا أحدَ غيرهم انتقد الاستشراقَ وحجّم تأثيرَه في مؤسسات أكاديمية ذات تأثير كبير في القرار السياسي الأوروبي والأميركي.
هذه محنةُ معتزلة القرن العشرين، اجتهدوا فحوربوا وشرّدوا، وقضى كثيرون منهم في المنفى. ماتوا غرباء. هذه محنةُ ولادتهم في زمن تُقهر فيه بلدانهم باسم الرقي، وتقاد باسم العقلانية إلى المعتقل.