حسين بن حمزةبعض الشعر يصيب القارئ أحياناً بالغثيان الحقيقي لا المجازي. هذا ما تفعله بنا معظم قصائد باكورة الشاعر السعودي حسين آل دهيم «هلوسة تعتمل في فمي» (الغاوون). الاعتمال في العنوان هو خلاصة اعتمالات عديدة متوافرة بغزارة داخل المجموعة التي تشهد عراكاً متواصلاً بين الشاعر ولغته. الأرجح أنّ العراك متأتٍّ من ممارسة شعرية لا تزال سارية لدى من يظنون أن كتابة الشعر تستلزم لغة تعمل ضد توصيل المعنى، أو توصيله بأكبر قدر ممكن من المبالغات المعجمية الكفيلة بطرد القارئ بدلاً من اجتذابه.
هكذا، وبحسن نية على الأغلب، يعرَِّض آل دهيم نصوصه لشراسة لغوية زائدة حتى عن حاجة نص يطمح إلى أن يكون ذا مذاق شرس. نفتح المجموعة، فنرى شخص القصيدة الأولى «يتلاشى مختنقاً بالقيظ والسلّ والسحايا»، ثم «يرسم يدين تحملان بيرقاً لإطفاء العفن والكتابة». في القصيدة الثانية، يستعير «المدن المارقة». في الثالثة نقرأ أنه «يتثوَّب دَرَن التاريخ»، وأن «عيناه تقيّأت صباحاً محنّطاً». إذا كانت هذه هي البداية، فإن القارئ لن يُفاجئ بتراكيب مماثلة تتفشّى كالوباء في معظم صفحات المجموعة، حيث الأرض «تتقيّأ اخضرارها»، والناس «محاكمون بالعناكب»، وتحديقاتنا «تتناسل قيحاً بطيئاً متخثّراً»، و«المدن تبصق رهبة الاقتحام» و«الذباب يتهامس بالعفونة». الواقع أن هذه الصور ليست ناشزة عن لغة القصائد ككل. هناك فجاجة شاملة تجول بطلاقة في ما نقرأه. الفجاجة تتحول إلى نبرة خاصة وأسلوب كامل. لنقرأ هذا الغزل مثلاً: «عمتِ المساءات كلها/ يا امرأة تمخّضت عنها الأراضي البكر كلها/ كسفرٍ عاهر/ يعبث جائراً متجبّراً/ ليحتل أجمل أمكنة القلب». لا أحد يلوم الشاعر على تعمّده الابتعاد عن الانسيابية والسلاسة. المشكلة أنّ الفجاجة تظل في حالتها الخام ولا تتحول إلى حساسية يمكن تبنّيها وإقناع المتلقّي بجدواها. قد نصادف قصيدة صغيرة تهادن القارئ: «سأزرع نواياي لتتعثّر بها الصبايا/ كان يوماً وكنا نلحس ساعدك المبتلّ/ بجذام الأزقة، ونحابي لعباً لأطفالٍ/ جُبلوا على خلق العيد والمرارات"» وقد نتعثر بصورة مشعّة مثل: «رأيتكِ وأنت تنثرين الطيور/ لرتقِ فتقٍ في الأفق»... لكن صورة نادرة كهذه تبدو دخيلة على المزاج العام لهذا الديوان، بل إنها موجودة لتُرينا حجم الفساد الذي عاثته الفجاجة فيه.