بشير مهدي: دعوني أرقد بسلامحسين السكاف
منذ زمن وهو يبحث في الروح البشرية وألغازها وآلامها، ليجسّدها رموزاً في عمله الفني... لوحاته تبثّ انطباعاً أولياً يتجه نحو الأسلوب الكلاسيكي أو أسلوب عصر النهضة والباروك، إلا أنّها سرعان ما تتكشف عن رموز ودلالات متداخلة مع بنية العمل تشير إلى فلسفة خاصة ومعاصرة. إنّه الفنان العراقي بشير مهدي (1950) الذي احتفت به أخيراً «غاليري مورن ـــــ أوترخت» من خلال عرض 20 لوحة زيتيّة بتوقيعه. باتت مدينة أوترخت الهولندية (وسط البلاد) تعرف بشير جيداً، بفضل أعماله التي تحاكي منجزات أشهر التشكيليين الهولنديين من أمثال جان فيرمير (1632ـــ 1675) وجاكوب يوردانس (1593 ـــ 1678) وغيرهما... يستعير مهدي أعمال هؤلاء ليوظّفها في خدمة فكرة حديثة، تحكي صراعات الروح البشرية المعاصرة بآمالها وآلامها، وبولعها المشحون بفكرة مريحة تسمى أحياناً الأمل.
«قد يكون هذا معرضي الأخير هنا في هولندا. العرض في الصالة يستدعي بيع الأعمال»، يقول مهدي الطامح إلى التوقف عن بيع أعماله كسلع. يتمنّى في المقابل أن يتمكّن من جمعها وتقديمها إلى «المتحف الوطني العراقي».
يعتمد مهدي التكنيك الكلاسيكي في التنفيذ، لكنّه يطعّمه بروحيّة معاصرة، تشي بمشاكسة من نوع خاص على صعيد التقنية والفكرة. في معرضه هذا، يستدعي مثلاً لوحة «الملك يسكر» ليوردانس. في سخرية تفرض نفسها على تراجيدية المشهد، نرى امرأة ثملة تنظّف طفلاً بطريقة مقرفة أمام ناظري الملك، وفي الخارج مشاهد من حرب مستعرة. في مشاهد تلك المعركة، برجا «مركز التجارة العالمي» في نيويورك وإلى جانبهما مئذنة لا يقلّ ارتفاعها عن ارتفاع البرجين... أمّا الملك فمختبئ وراء قماشة زرقاء. تعود لتظهر في أغلب أعمال مهدي.
تأخذ اللوحات طابعاً درامياً في تكوينها، إلى درجة يشعر المتلقي بالبرد والخوف والوحشة أمامها. التوازن في الشكل، يشي بتناقضات كثيرة على صعيد المضمون، في أجواء تقترب من السريالية لناحية الألوان والغرابة الطاغية. لكنّ مهدي يحتجّ: «أنا لست فناناً سريالياً، لأنني أقف دوماً ضد التشويه». في لوحة «دعوني أرقد بسلام»، تطغى تيمتا الموت والوهم. يدعونا العمل إلى التحديق بذلك الغطاء الذهبي الذي ما إن نقترب منه حتى نجده مصنوعاً من الحجر، لا من القماش، ويدلنا على ذلك تفتت بعض أطرافه. اللوحة بتكوينها أكثر وحشة من زنزانة السجن. السرير دكّة صخرية بنتوءات تبعد فكرة النوم. جمجمة منصوبة فوق قماشة زرقاء، وجدار بثلاث نوافذ وهمية هي في الحقيقة ثلاث

تأثّرٌ واضح بالتشكيليَّيْن الهولنديين فيرمير ويوردانس

صفائح بلون السماء. يبدو أنّ الضوء في اللوحة ليس إلا وهماً، تماماً كوهم النافذة. الضوء هنا هو ضوء الخديعة. خديعة إمكان الحياة في مكان أُعِدّ أساساً للموت والخوف والحيرة. ترتبط الأعمال المعروضة بالإنسان وإن كان مغيَّباً عن معظمها. في لوحة «أنا الإنسان»، صخرة تشبه جمجمة متروكة على الوسادة. لكن المتأمل للعمل سرعان ما يكتشف أنّ هناك حضوراً بشرياً ما، لكنّ الريشة تعمّدت تغييبه. السرير في عالم بشير مهدي هو الحياة بكل متناقضاتها، هو الموت والسعادة والأحلام والولادة والمرض. وهو أيضاً إشارة واضحة إلى ضعف الإنسان وهوانه. والسرير هو على الأرجح وطن بشير مهدي حيث هُمِّشَ الفرد. لهذا يظهر الجسد في معظم لوحاته كأثر فقط. لكن في زاوية اللوحة بصيص أمل: كرسي صغير غير متساوي الأرجل، توازنه قطعة ساندة مضافة، وفوقه قدح ماء في محاولة لتعزيز فكرة الاستقرار. هي إذاً حالة تنشد التوازن والأمل وسط الخراب... العمل لا يخلو من المشاكسة، أو التحدي لتناقضات الوهم والحقيقة. فوق الكرسي نفسها تنتصب لوحة فيرمير الشهيرة «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي». كاعتراف صريح بتأثر مهدي بتقنية فيرمير.
www.galerieutrecht.nl