الصور التي التقطها بعد عدوان تمّوز، تعيش الآن حياة جديدة من خلال معرض يحتضنه «المركز الثقافي الفرنسي» في بيروت. وقوف على «أطلال توفيقيّة» عابرة للزمان والمكان
بيار أبي صعب
في الأيّام القليلة التي أعقبت انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، صيف ٢٠٠٦، حمل جيلبير الحاج كاميراه، ومضى إلى الضاحية الجنوبيّة لبيروت، يحاول أن يحصر ذلك الخراب. النتيجة كانت سلسلة فوتوغرافيّة، حقّقها بأسلوبه الذي يعتمد لغة التوثيق وقوالبه ومنهجيّته، وعرَضها أواخر العام نفسه تحت عنوان «موطن ١» («الأخبار»، ٧/١٢/٢٠٠٦). وبعد أربع سنوات، والعديد من الأعمال والإصدارات والمعارض التي أنجزها، فتح الفنان اللبناني صناديقه، أخرج كليشيهاته القديمة، ليعيد قراءتها من زاوية أخرى. اختار ست قطع من مجموعته السابقة، وطبعها بمقاسات ضخمة (٢٢٠ x ٢٨٥ سنتم)، لتكون مادة معرضه «أطلال توفيقيّة» الذي افتتح مع ذكرى وقف العدوان، في «المركز الثقافي الفرنسي» (بيروت)، ويستمرّ حتّى نهاية الشهر الجاري...
ماذا يبقى من الصورة بعد مرور الوقت، وتبدّل دلالاتها وعلاقتها بالواقع؟ كيف تتعايش مع نظرتنا الراهنة إلى الأصل الذي تحيل إليه؟ وخصوصاً أنّ ذلك الأصل تغير من أساسه، وبات وجوده الفعلي يقتصر على الذاكرة. منظر البنايات المبقورة والمدمّرة في الضاحية، بات اليوم من الماضي، من الأرشيف والتاريخ، بعدما أعيد إعمار الأحياء التي كان المصوّر قد زارها إثر فاجعة تمّوز 2006. «الأطلال يخيّم عليها البشر الأحياء الذين يسكنونها»، يكتب جلال توفيق الذي أعطى للمعرض اسمه. لعلّهم يحملونها معهم، في أماكنهم الجديدة المحكومة بأن تكون أطلالاً، حسب قراءة الفنّان والمنظّر المذكور لعلاقة المدينة بحروبها، بأماكنها المرشّحة أبداً للتحوّل والامحاء. هذا النصّ النظري المكتوب قبل عدوان تمّوز تحت عنوان «أطلال»، استند إليه جيلبير الحاج في استنباط أبعاد (وقراءات) إضافيّة لمشروعه السابق، لاعباً على عنصرين أساسيّين، هما العلاقة الذهنيّة بالزمن، والعلاقة الجسديّة بقواعد المنظور.
عامل الوقت يعطي للأطلال بعدها الافتراضي، الرمزي، الأسطوري. احتفال مأسوي أخرس، قوامه الصمت والذهول، في حضرة تلك الندوب التي تضاف إلى أخرى كثيرة متجذّرة في الوجدان الجماعي. هنا يبلغ فنّ جيلبير الحاج «الموضوعي» ذروته. وتكتسب أعماله بعداً جديداً، بحكم علاقة التجاذب بين المحاولة التنظيريّة والمادة الفوتوغرافيّة. ثم يأتي حجم الأعمال الحاليّة، ليقلب المعادلة رأساً على عقب. عندما اكتشفناها للمرّة الأولى، كانت مسحوبة في مقاسات صغيرة (٥٦ x ٧٢ سنتم) تحدد مجال النظر، وتغيّب الكثير من التفاصيل. وتتركنا جزئيّاً خارج المشهد، لأسباب تقنيّة بحتة. أما التقديم المغاير للصور في المعرض الحالي، فيعطيها بعداً آخر، إذ يلغي المسافة مع الموضوع، ويطلق «شعريّة الخراب» التي يبحث عنها جيلبير الحاج.
يقف الناظر أمام الصورة العملاقة، يدخل المشهد ويضيع فيه. العين المفتوحة على اتساعها تأخذ كل وقتها في التجوّل داخل الصورة، أفقيّاً وعموديّاً، عبر حركات بانوراميك وزوم كأنها كاميرا سينمائيّة. الأشياء الصغيرة المنسيّة بين الركام تستعيد هنا وضعيتها الأولى لحظة المجزرة. أضغاث حياة سابقة مبعثرة وسط ديكور كارثيّ من الاسمنت، والحديد المعجون. يحمل الركام بصمات قوّة خارقة، فوقيّة، همجيّة، غيّرت مجرى الحياة في هذا المكان المحدد الذي ترصده الكاميرا بعين متفحّصة، من خلال متتاليات فوتوغرافيّة، متشابهة في طريقة معالجة الواقع...

الأشياء الصغيرة المنسيّة بين الركام تستعيد هنا وضعيّتها الأولى لحظة المجزرة

التشكيلات البصريّة في هذه التجربة، قائمة أساساً على تراكب التفاصيل وهندسة الفراغ. اشتغل جيلبير الحاج على تتبّع تجسيدات الكابوس ببرودة شبه علميّة، متأثّراً بـ«المدرسة الموضوعيّة» التي أطلقها الثنائي الألماني بريند وهيلا بيكر في أواسط القرن الماضي، وقبلهما أوغست ساندر في مطلعه. الإضاءة المحايدة، التركيب الهندسي والمينيمالي، المسافة من الموضوع، الكادر المحصور الذي لا أثر فيه لأي حياة. خط الأفق في المكان نفسه من الإطار. الكاميرا دائماً في وضعيّة مواجهة، لا مواربة، لموضوعها. واللقطات تتوالى لتشكّل حلقات من سلسلة وثائقيّة تلجم المشاعر، وتحاول أن تصف الخراب، أن تفهمه وتحصيه.
المقاربة «موضوعيّة» هنا، ليس لأن الفنّان يدّعي تصوير الحقيقة، بل بحكم الوظائف الموضوعيّة ـــــ من وصف وتصنيف واستخلاص ـــــ التي يطلبها من الصورة، وبحكم الجماليّة الوظيفيّة التي تقترن بها أعماله. يسائل جيلبير الفن الفوتوغرافي، فن تخليد الزائل، إنما أيضاً فنّ عزل الواقع والحياة عن مسارهما، في إطار محايد. يخضع الصورة لامتحان قاس، تلك الصورة التي باتت عنصراً مستقلاً، له حياته الخاصة، بمعزل عن حركة الواقع.

حتى نهاية الشهر الجاري ـــ «المركز الثقافي الفرنسي» ـــ (طريق الشام/ بيروت) ـــ للاستعلام: 01/420232


أطلال «توفيقيّة»


من «موطن 1» في عام 2006... إلى «أطلال توفيقيّة»، نسبة إلى جلال توفيق الذي يتصدّر المعرض بأحد نصوصه المرجعيّة. تطوّر مشروع جيلبير الحاج ونضج شكلاً ومضموناًَ، في تماسه مع تساؤلات نظريّة طرحها زميله الباحث اللبناني/ العراقي قبل عدوان تمّوز، ونشر النصّ ضمن «بوسعنا أن نصنع المطر، لكن أحداً لم يأت ليسأل» (أرشيف «مجموعة أطلس»). وقد أعيد نشر النص بالانكليزيّة (ومترجماً إلى الفرنسيّة بجهد السينمائي غسّان سلهب)، في الألبوم الفوتوغرافي الأنيق (بورتفوليو، ٤٧ x ٣٠ سنتم) الذي أصدره جيلبير الحاج عن تلك التجربة بالعنوان نفسه TOUFICAN RUINS، وهو الثالث له بعد سلسلة «أرارات» («الأخبار» ٢٦/٩/٢٠٠٩)، وسلسلة برلين كما صوّرها من شبّاك المركب (منشورات Underexposed).
www.gilbethage.com