بيار أبي صعب الفساد والمحسوبيّة والمحاصصة والطائفيّة والتعصّب والاستئثار بالسلطة وازدراء المصلحة العامة... من سمات الجمهوريّة العتيدة ـــ لكي لا نقول مداميكها الأساسيّة ـــ خلف واجهة الكرتون الفولكلوريّة المطليّة بالانفتاح والديموقراطيّة في وطن الأمجاد والحريّة والكرامة إلخ. وبهذا المعنى، فإن نقابة المحرّرين هي ابنة هذا الانحطاط، صنيعته بامتياز، وعيّنة أمينة عن معظم المؤسسات في لبنان.
«نقابة المحررين اللبنانيين» أغرب نقابة في العالم، تصلح ديكوراً لمسرحيّة فودفيل من توقيع جورج فيدو. نقيب واحد (رحمه الله) حكمها قرابة نصف قرن تراجعت خلالها حقوق المحررين. إنها أشبه بالحزب السرّي: لا يعرف أحد شروط الانتساب إليها أو معاييره، لماذا تقبل هذه العضويّة أو ترفض تلك، أو متى يفتح باب الانتساب أو يغلق... نقابة تخبّئ في ظلمة الأدراج، المقفلة بعناية، لوائح أعضائها باعتبارها سرّاً قوميّاً خطيراً. ترى هل يخجل مجلس النقابة بأعضائه، كما يخجل من أمور أخرى؟ نقابة ـــ نقيبها من طائفة محدّدة دون سواها ـــ تفضّل أن يجري كل شيء في السرّ والظلمة والخفاء، النقاشات والمداولات والمسائل التنظيميّة، بعيداً عن أي شكل من أشكال الشفافيّة والتواصل مع من يفترض بها تمثيلهم، بل مع الرأي العام بصفة أوسع. كنّا نظنّ أن نقابة المحررين مهمتها الدفاع عن مصالح أبناء هذه المهنة وحقوقهم، وإشراكهم في صناعة القرار رافداً أساسيّاً في حياة الحاضرة.
لقد فرض ملوك الطوائف في لبنان، طوال عقود، أسماء المنتسبين الجدد إلى نقابة المحرّرين. يقضي العرف بأن يرسل كل «مرجع» قائمته «الأميريّة»، ثم تصبّ القوائم في الوعاء الكبير، على قاعدة الـ«ستة وستة مكرّر». هذا التشوّه الخلقي بحدّ ذاته وصمة عار على جبين كلّ عضو في «نقابة المحررين اللبنانيين». كي تكون عضواً، (وهي عضويّة لا تفيد في شيء) لا بد من أن تخرج من عباءة أحد الزعماء الذين يصنعون «مجد هذا البلد ورقيّه واستقراره». أي أنك ستكون هنا، شئت أو أبيت، شاهد زور وعبداً ذليلاً وخادماً أميناً لمصالح سيّدك ووليّ نعمتك، ومروّجاً لمواقفه وخياراته. لو أن المسألة تتعلّق بجمعيّة «بائعي الخضار» مثلاً (مع كل الاحترام لبائعي الخضار، فالنضال النقابي واحد في النهاية)، لكان وقع المصيبة أخفّ ربّما. لكننا نتحدّث هنا عن هيئة نقابيّة تمثّل الصحافة اللبنانيّة... أي أن أعضاءها هم حرّاس الديموقراطيّة، والمؤتمنين على الحياة العامة، وحق الاختلاف والتفكير والتعبير، في خدمة المواطنة والرأي العام.
الصحافيّون عادةً يستندون إلى حدّ أدنى من الاستقلاليّة المهنيّة والأخلاقيّة والسياسيّة، ليتمكنوا من نقد الأخطاء، وممارسة رقابة على أصحاب القرار، ونشر الحقائق المزعجة، وتسليط الضوء على العيوب والتجاوزات مهما كانت السلطة القائمة. فهل يجد الصحافيون اللبنانيون أنفسهم في النقابة الحاليّة حقاً؟ حين طرحنا السؤال حولنا، فوجئنا بعدد الزملاء الذين لا يهمّهم أن يسمعوا بها، ولا يعتبرون أنها تمثّلهم، ولم يفكروا مرّة في الانتساب إليها. هناك الذين حاولوا أيضاً، مدفوعين بأوهام الإصلاح الديموقراطي من الداخل، لكنّ طلباتهم رفضت في معظم الحالات، وبقوا عند باب النقابة. أما القلّة التي نفذت على مرّ السنوات من «خروم الشبك»، فوجدت نفسها معزولة مهمّشة، وباتت عضويّتها شكليّة أو صوريّة.
الصراع محتدم على منصب النقيب منذ رحيل ملحم كرم. صدرت بيانات، وأقيمت دعاوى، وعقدت اجتماعات متابعة في أوساط المجتمع المدني... لكن هل يستحقّ الأمر كل هذا العناء، خارج المصالح الضيّقة، والتناحر السياسي الفئوي على السلطة ـــ أي سلطة ـــ وصندوق النقابة المكتنز؟ ماذا يمكن صحافياً في بداية طريقه أن ينتظر اليوم من تلك المؤسسة المتآكلة؟ على مستوى الحقوق والحريّات والتسهيلات والتدريب التقني والاعتراف المهني... وكل المهمات التي تقوم بها، أو الخدمات والضمانات التي تقدّمها، أي نقابة للصحافيين في العالم.
بعد كل هذا الخراب المعنوي والمادي والأخلاقي، هل يمكن أن ننتظر شيئاً من أي نقيب جديد، قد ينتخب اليوم، أو قد يؤجّل انتخابه مجدداً بفعل مناورات ومساومات وضغوط وتجاذبات وتدخلات و«مفاجآت» على الطريقة اللبنانيّة؟ ربّما كان المخرج الأمثل اليوم هو حلّ «نقابة المحررين»، مثل البنايات المتصدّعة التي بات من الصعب ترميمها. على أن يصار إلى تأسيس نقابة جديدة، على قواعد عصريّة. نقابة بالمعنى الفعلي للكلمة، تتسع للشباب، وتعيد الاعتبار الى المعايير المهنيّة، نابذة كل آفات الفئويّة والمذهبيّة والمحسوبيات.