strong>ثائر غندور44 سنة هي مدة سيطرة النقيب الراحل ملحم كرم على نقابة المحرّرين. لكن هذه السيطرة لم تكن الكارثة الوحيدة. بل إن مجلس النقابة ككلّ بدا بعيداً عن واقع الصحافيين: بعض الأعضاء مثلاً لا يقرأون الصحف. منهم من لا يعرف أين يعمل هذا الصحافي أو ذاك... وهي طبعاً كلّها معلومات ضرورية، على كل عضو في مجلس نقابة أن يعرفها، وليست ترفاً كما قد يخيّل للبعض.
نظرة سريعة إلى راهن النقابة لا توحي بالطمأنينة. حوالى 1300 عضو مدرجين على الجدول يصوّتون في انتخابات اختيار المجلس، إلا أنّ قسماً كبيراً من هؤلاء لا يمتّون إلى الصحافة بصلة، مثل إحدى القاضيات المدرجة على الجدول النقابي وهي تعمل في السلك القضائي منذ عشرين عاماً. وما يزيد الطين بلّة أن الجسم النقابي، الذي يُفترض به أن يكون متحركاً، يبدو جامداً، بل قل ميتاً. هكذا لا نرى أي احتجاج على غياب المكتسبات والحقوق التي يُفترض بالنقابة تأمينها للصحافيين، من الحماية النقابيّة إلى التأمين الصحي وغيرهما وصولاً إلى الراتب التقاعدي.
ولم تشهد العقود الخمسة الماضية أي محاولة لتحسين النقابة، باستثناء تجربة واحدة للانتفاضة على ملحم كرم كانت عام 1978. حاول بعض الصحافيين أن يؤلّفوا لائحة بالمناصفة بين «الشرقيّة والغربيّة». يومئذ جرى الاتفاق على أن تحصل كل منطقة على ستة مقاعد، على أن يبقى ملحم كرم العضو الثالث عشر والنقيب، «لكن بذلك نكون قد سيطرنا على أمانة السرّ والجدول النقابي وأمانة الصندوق، ويُمكننا بناء نقابة» يقول راشد الفايد عن تلك المرحلة. الفايد كان أحد المشاركين في تلك الانتفاضة. وقتها وافق بشير الجميّل على الصيغة الجديدة، وتعهّد تأمين مرور الصحافيين إلى قصر العدل، الذي اختير مكاناً للانتخابات. لكن الانتفاضة لم تحصل. إذ اتّفقت الحركة الوطنيّة مع ملحم كرم على إحكام قبضته على تفاصيل اللعبة مقابل تخلّيه عن حلمه بتولّي رئاسة نقابة الصحافة. ولم يكن خافياً على أحد أن ملحم كرم كان يسعى إلى أن يكون نقيباً للصحافة، بما أنّ صاحب هذا المنصب يتولّى في الوقت نفسه رئاسة الجدول النقابي، الذي يجمع نقابتَي الصحافة والمحرّرين.
قد يرى البعض أن خطوة الحركة الوطنية مبرّرة، إذ إنّها أرادت إبقاء ملحم كرم قريباً منها خوفاً من شروده يميناً صوب الجبهة اللبنانيّة. لكنّ الأكيد أن الحركة ارتكبت خطأً غير مبرّر، فأعطت كرم مساحة لترتيب بيته. هكذا ركّب لائحته التي ضمّت سبعة أعضاء يدينون له بالولاء الكامل. ثمّ اخترع مناصب وهميّة ووزّعها على من لم يُصبح عضواً في مجلس النقابة.
ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم، فإن فتح باب الانتساب إلى النقابة (الجدول النقابي) يمرّ عبر رئيس نقابة الصحافة. أي نقابة أصحاب العمل. يُفتح الجدول نظرياً مرّة قبل كلّ انتخابات، أي مرّة كلّ ثلاث سنوات، لا بصورة دائمة وتلقائية أمام من يملك المواصفات الضروريّة للانتساب. ويستغرب كثيرون هذه العلاقة بين نقابة أصحاب العمل (الصحافة)، ونقابة العمّال (المحررين)، لكنّهم يؤكدون أن هذه الصيغة كانت جزءاً من ضروريّات استمرار إمبراطوريّة ملحم كرم.
إذاً، يُكرّر العارفون بتلك الحقبة أنّ هاجس كرم كان أن يتولّى نقابة الصحافة، «لكن الصحف الكبرى، مثل «النهار» و«السفير» و«الأنوار»، لم تقبله، لأن أسلوبه في العمل فردي. حتى بعد شراء بعض الامتيازات، فإن الصحيفة التي امتلكها (البيرق) لم تكن بمستوى الصحف الكبرى، لذلك قرّروا إبقاءه في نقابة المحرّرين» يقول أحد المطلعين على الملف. عبارته واضحة لا تحمل التباساً: أداء كرم فردي فليُترك لنقابة المحررين.
وطيلة السنوات التي قضاها إمبراطوراً في النقابة، استطاع كرم أن يحافظ على علاقته الجيدة مع أصحاب الصحف. مثلاً عندما يُصرف الصحافيّون تعسّفاً، غالباً ما كانت النقابة تكتفي بإصدار بيان «لطيف» عن الموضوع. ورغم ما يقوله المدافعون عن أن الرجل دافع طويلاً عن الصحافيين وحقوقهم يبقى السؤال: متى؟ وكيف؟ وهل كانت بيانات الاستنكار كافية لحماية الصحافيين؟
قرّرت الدولة إقفال محطّة الـ MTV، غابت النقابة عن السمع. خسر الصحافيّون مكتسباتهم من الدولة، فلم تتحرّك نقابتهم، ولم تُعطِ الراغبين في الاعتراض مكاناً لاعتصام صامت. حصلت تطوّرات كثيرة لكن النقابة بقيت في حكم الميتة.
باختصار تميّزت أعوام التسعينيات بضرب الحركة النقابيّة في الأمكنة التي كانت موجودة فيها. لم يقترب أحد من نقابة المحررين لأنّها مهترئة أصلاً. هكذا بقي ملحم كرم إمبراطوراً. أرضى أصحاب العمل وأرضى السلطة، وتحوّل حارساً لعرقلة أي حراك نقابي صحافي، ولم ينسَ في الوقت نفسه كيف يستعطف الدول العربية فيحصل على مساعداتها، ومساعدات من وزارة الإعلام، وهي أموال طائلة صرفها لحسابه الشخصي من دون امتلاك النقابة مبنى حتى اليوم. حتى الآن بقي مبلغ 3 ملايين ومئتي ألف دولار في صندوق النقابة... هنا مربط الفرس.