من أمستردام إلى برلين، كثيرة الأفلام التي تستعيد ــــ من وجهة نظر أوروبيّة ــــ إشكاليات الاسلام المعاصر. وقفة عند تجربتين يجمع بينهما سؤال واحد: لماذا بات التطرّف سمة العصر؟
زياد عبد الله
التطرّف، والتسامح، والمثلية، والإسلام، و... أوروبا! كيف للألماني أن يكون مسلماً، والعكس أيضاً؟ وكيف لحياة شاب بوسني أن تنقلب رأساً على عقب حين يمضي في درب الوهابية؟ أسئلة يتمحور حولها شريطان أطلقهما «مهرجان برلين السينمائي» في آخر دوراته، ويثيران الاهتمام حالياً في أكثر من مدينة أوروبيّة: الأول ألماني بعنوان «شهادة» إخراج برهان قرباني، في أول روائي طويل يحققه، والثاني بوسني Putu Na (على المعبر) لياسميلا زبانيتش.
ولعل فيلم قرباني مكرّس تماماً لتقديم مصائر ـــــ مهما اتصلت أو انفصلت ـــــ تتحرّك جميعها تحت مظلة الإسلام الألماني، بما يجعل صراعات هذه الشخصيات نابعة من آليات التأقلم التي تمارسها. وستضعنا مباشرة أمام ثنائيات من قبيل: مسلم/ ألماني، ومسلم/ مثلي...
ثلاثة خطوط درامية تلتقي وتفترق، تتشابك وتنفصل في «شهادة». منذ البداية، نقع على مريم الحامل والغارقة في حياة برلين الليلية. مريم ابنة إمام مسجد متسامح لا يجد في الدين إلا المحبة والرحمة، بينما مريم نفسها تنقلب عليه بعد محاولاتها المضنية للإجهاض، وتتخذ النقيض التام لوالدها، وهي تجد فيه رجل دين مزيّفاً لا يحمل شيئاً من الإسلام الحق، وتمسي متطرفة إلى حدّ أنها تضيق بالحرية التي كان يحرص والدها على أن تعيشها.
إلى جانب ذلك، نمضي مع سامي والصراع الذي يعيش، إذ كيف يكون مثلياً وملتزماً دينياً في آن؟ وهو واقع في غرام زميله الألماني، وينجرف نحوه بينما هو صائم، ما يضعه بين يدي والد مريم الذي يستقبله بتفهّم. وبالتوازي، نشاهد ضابط الشرطة إسماعيل التركي الأصل، المتزوج من ألمانية سرعان ما يهجرها وابنه، حين يتورط في علاقة مع مهاجرة غير شرعية تركية، يساعدها للنجاة من الترحيل.
تتناول ياسميلا زبانيتش ظاهرة تسرّب الوهابيّة بقوة إلى دول البلقان
فيلم «شهادة» مبني بإيقاع سريع ومتواتر، رغم أنّه معدّ مسبقاً كي يقدّم شخصياته كنماذج. لكنّه وارب هذا الأمر جيداً حين حوّلها إلى شخصيات من لحم ودم، تحبّ وتكره، وتخطئ، وتبقى مصرّة على الانتماء إلى هوية دينية مهما اتسعت التناقضات. وبالتالي، يقدّم العمل ما يمكن أن تكون عليه حيوات أبطاله من تصارع بين الديني والدنيوي، وخصوصاً أنّهم يعيشون في ألمانيا.
تلتقي الخطوط لدى رجل الدين الحريص على قيم الحبّ والإخاء وغير ذلك من أفكار نبيلة، مع انفتاح على «الخطايا»، لكون ما يقابلها دائماً هو المغفرة. ولعل الفيلم يقدّمه نموذجاً تستدعيه الحياة الألمانية، وبكلمات أخرى، نموذجاً تحتفي به الثقافة الألمانية.
أما ياسميلا زبانيتش، فلديها ما تقوله عن التحولات التي تطال البوسنة غير الذي قدّمته في فيلمها «غربافيتشا» (راجع الكادر). في «على المعبر»، تقارب الموضوع هذه المرة من خلال شخصيتين تجمعهما علاقة حب، هما لونا (زرينكا شفيتيستش) وعمار (ليون لوشيف)، من دون أن تفارقهما ظلال الحرب الصربية. قُتلت عائلة لونا في الحرب، بينما شارك عمار في الحرب بعدما قضى أخوه فيها. وهو الأمر الذي يحضر في سياقات تعزّز ما يودّ الفيلم تقديمه من تشوّهات طالت الحياة البوسنية، لعلّ أبرزها «التطرّف».
لونا تعمل مضيفة طيران، فيما يُطرد عمار من عمله في برج مراقبة المطار لأنّه كحولي. ولعل اليقين الوحيد الذي تمتلكه الشخصيّتان هو الحب، وعلاقتهما الدافئة والمتقدة، التي تبقى كذلك إلى أن تحدث الانعطافة الكبرى في حياة عمار. بمجرد لقائه مصادفةً بأحد رفاق الحرب القدامى الذي أمسى سلفياً، يجد فيه عمار مخلّصاً يأخذه إلى عالم يمنحه شعوراً بالأمان. وعليه، يهجر عمار الكحول بسهولة تكون مستعصية سابقاً، ويواظب على الصلاة، مع طاعة عمياء للإمام، سائراً في درب الإسلام المتزمّت الذي يحرص الفيلم على تقديمه من خلال تعدّد الزوجات والنقاب. ترفض لونا أسلوب حياة عمر الجديد، وتهجره. إنها مصرّة على الاستمرار بنمط حياتها، فيما يمضي عمار في تغيّراته الجذرية... وأوّلها أنّه صار يشعر بأنه يمارس معها «الفاحشة» لكونهما غير متزوجين.
ما يريد الفيلم قوله، عبر أحداثه المتصاعدة، هو انّه ما من طريق ثالثة في بوسنة اليوم: التطرف في الكحول والحياة الليلية والعلاقات الجنسية، أو التطرّف الديني والتعامل مع الدين بوصفه شكلاً من أشكال القمع الذي لم يكن له من وجود عند الجيل السابق لعمار ولونا. قبل تحوّلات عمار، نشاهده يحتفل بعيد الفطر بشرب الكحول وتبادل الأنخاب.
فيلم «على المعبر» محمَّل بالكثير، يقول ما يقول عن الإسلام «الوهابي» الذي تسرّب بقوة إلى البلقان، كما يخبرنا... وهو مبني بإيقاع متناغم، يمضي على هدى المعبر الذي يفضي إلى أرضين على طرفي النقيض... وكلتاهما على قدر كبير من التطرف!


عن استحالة النسيان

لفتت السينمائية الصربية ياسميلا زبانيتش أنظار النقاد في «مهرجان برلين السينمائي الدولي» عام 2006. يومها فاز شريطها «غرابافيشتا» بالدب الذهبي، وهو قصة عن جراح حرب لم تندمل. البطلة إسما تربي ابنتها سارا ابنة الثانية عشرة في ضاحية من ضواحي سراييفو أعطت اسمها للفيلم. نتتبع مصائر شخصيات تتصارع مع المخلفات القاسية للحرب. يجثم ماضي الأم الغامض على يوميات ابنتها. تريد سارا الذهاب في رحلة مدرسيّة، لكنّ والدتها العاملة في مصنع أحذية لا تملك نفقتها. حين تعلن المدرسة أن أبناء الشهداء يمكنهم الذهاب مجاناً، تفرح الطفلة معتقدةً أنها تندرج ضمن تلك الفئة، قبل أن تكتشف ماضي والدتها. كانت إسما واحدة من آلاف الصربيات اللواتي اغتُصبن على نحو منهجي في معتقلات التعذيب. تحاصر ياسميلا زبانيتش شخصياتها بأعباء حرب قاسية، هنا مقابر جماعية لا تزال مفتوحة، وأوضاع معيشيّة قاسة. «غرابافيشتا» شريط عن ضرورة النسيان... تلك المهمّة المستحيلة.