بعد خمسة أفلام، ما زال نجم الشبّاك المصري مهرّجاً... لم يعرف كيف يرتقي بشخصيّته إلى منزلة الفيلسوف الشعبي كما حصل مع فؤاد المهندس أو إسماعيل ياسين
وائل عبد الفتاح
لماذا فشل «اللمبي ٨ جيجا»؟ ما حدث ليس نهاية فيلم، لكنه مصير شخصية، لها ظل في الواقع، ومرآة لها في السينما. كيف سارَ محمد سعد بأللمبي إلى نهايته؟ محمد سعد يشبه الإفيه (effet): قوي وخاطف، يترك أثراً. ابن فوضى، عفوي، يخرج من تحت خبرات ثقيلة. مربك، يدمّر كيانات أقامها المجتمع ونسيها بعدما استقرّت عليها سعادته. تدمير يخفي سرّه في عفوية شخصية «اللمبي».
شخصية فريدة، وطازجة تكوّنت من بقايا أفكار، وقيم، وأخلاق فقدت هيئتها الأولى، وتآكلت، وتجمّعت في كيان لا يمكن توصيفه بأوصاف تقليدية. اللمبي هو «حثالة» المدن. ليس صعلوكاً، ولا ابن البلد الشعبي ولا الفقير المعدم.
هو «حثالة» تعيش بين فواصل الطبقات. لا وعي خاص، ولا سياق تعيش فيه. تغضب أحياناً من السلطة، وتصل بغضبها إلى الحافة، فتكسر وتحرق. وبعد قليل، يمكنها أن تصبح في الطرف الآخر، والحماسة والتدمير نفسيهما. حثالة تفجّر الكوميديا من صندوق بقايا بشرية.
يمكن من باب الفلسفة عدّها نوعاً عشوائياً من الغضب والسخط على كل المؤسسات القائمة، بدءاً من مؤسسات السياسة إلى مؤسسات القيم والأخلاق، ومن العائلة إلى المدرسة، مروراً طبعاً بمؤسسات السلطة التي لا تطارد سوى «الغلابة» والضعفاء، بينما تحمي الأقوياء، والمسنودين إلى حائط النفوذ.
اللمبي هو هذا الكائن المسخ الذي ولد بعد سنوات طويلة من الصمت والعجز. يتحدّث بكلمات غير مفهومة، ويعبّر بنصف لسان وحركات فوضوية. فتى من حي شعبي يعتقد بأنّه يملك قدرات خرافية: «أنا ممكن أقطع الكهربا عن الحي كله، أنا اللمبي اللي الزلزال يزلزل الدنيا وما يهزنيش». ويشعر بثأر مع الدنيا، لأنّ حظه لا يناسب قدراته التي يتخيلها. لهذا، يتوعد الناس كلهم في جملة يكرّرها كثيراً «طيب يا بني آدمين».
قاموس ينتمي إلى لغة سوقية، فاضح في أخلاقه. يشرب البيرة علناً، ويدخّن الحشيش والبانجو. ويعلن حبه، ويتبجح على الدنيا كلها. لكنّه في الوقت عينه، رقيق وخجول ورومانسي على طريقته.
يتدخل في كل شيء: تدخّل مفرط من دون علم ولا دراية. يرقص، ويغنّي، ويبيع نفايات الطعام، ويقول الشعر وينظِّر في الحب. يشعر دائماً بالخطر. وهو في الوقت نفسه مصدر الخطر الأول. اللمبي لا يشبه أحداً. وعلى رغم الإعجاب، فإنّه ليس البطل الذي يتوحّد معه الجمهور، يعجب بمشاعره الخشنة والبريئة، وبتصدّيه للمخاطر بسهولة، وبمعارفه التي لا يضمها سياق. لكنّ هذا الجمهور لن يكون مثله. يستمدّ اللمبي ثقافته ومفاهيمه غالباً من الفجاجة. كل شيء في حالته العارية. لا تنميق ولا عناوين براقة.
ليس من «المهمّشين» الذين كانوا أبطال سينما الثمانينيات
شخصية يمكن أن تراها كثيراً في المعسكرات البشرية التي تسمّيها الحكومة مساكن شعبية. محمد سعد ولد هناك في بيت صغير في منطقة زينهم (ثاني أكبر منطقة عشوائية في القاهرة)، والتقط بخبرة فطرية ملامح الشخصية. وهي كلّها لا تعتمد فقط على الإفيهات الخشنة والخاصة. لكنّها تعتمد أيضاً على الصمت. صمت الدهشة حين يقابل اللمبي شيئاً عصياً على الفهم، فترتسم ملامح البلاهة والغفلة على وجه «الوحش» المخيف للمنطقة. وهو وحش، لكنّه جبان في الوقت عينه. وفي وحشيته وخوفه، شيء خاص بكائن «تجميع» وليس أصيلاً. وهذا ما لم يلتقطه عدد كبير من مثقفين تقليديين، حاولوا أن يبحثوا في اللمبي عن مصدر قيم أو موديل للحياة. هؤلاء عدّوه رمزاً للانحطاط، كما حدث قبلاً مع أحمد عدوية حين كان المثقفون ينظرون إليه على أنّه رمز الانحطاط. ثم ظهر أنّ عدم تذوق هذا اللون من الغناء، يرجع إلى ثقافة محدودة ونرجسية لا ترى أبعد من مزاجها وذوقها. وتكرّر هذا مع اللمبي ومحمد سعد. المثقف من هذا النوع يبحث عن موديل، واللمبي هو نفاية كل موديل. هو ضد أخلاق الطبقة الوسطى ومعها في الوقت عينه... فيلم اللمبي الأول، انتهى بمشهد لمحمد سعد وهو يعلّم ابنه الكومبيوتر، ويرتدي «روباً» منزلياً كالذي يرتديه كل نجوم الطبقة الوسطى في أفلام عزّها. وفي اللمبي الثاني، اشترك في المخ نفسه مع ضابط شرطة أمين وغير فاسد، لكنه عنيف مع المجرمين (استبدل دماغ الضابط بدماغ اللمبي). إنّها علاقة متوترة في المدرسة والسجن، أشهر مصانع القيم وورش تخليق المواطن المثالي. لكنّه توتر تحت السيطرة، ينتهي نهايةً سعيدة.
لا شيء يبرر بطولة اللمبي وأخواته سوى هزائم متكررة في الحياة. ليس البطل الضد مثل روبرت دي نيرو في «سائق التاكسي»، أو أحمد زكي في أفلام الثمانينيات. ولا هو من «المهمّشين» الذين كانوا أبطال سينما الثمانينيات، كما صنعها محمد خان، وخيري بشارة، وداوود عبد السيد، ومن بعدهم رضوان الكاشف...اللمبي وإخوته من صنع شخص واحد هو: محمد سعد. الشخصية تأكل الفيلم، وصورتها تقدّم كما هي من دون نظرة من خارجها. يعتمد محمد سعد في تقديمها على التضخيم، والاستعارة، في شكل أقرب إلى الكاريكاتور.
الاعتماد الأساسي على صورة وصوت مستعارين، وطريقة مبالغ فيها في الحركة. وهنا تأتي أهمية الجسد في هذا الأسلوب. الجسد لين ومطيع، والممثل يبذل جهداً خارقاً لإطلاقه حراً في مشاهد سائلة. وهي قدرات لا يملكها الكثير من النجوم المنافسين لمحمد سعد الذي سار مع اللمبي إلى النهاية. تصرّف بعشوائية اللمبي، وسار باختياراته إلى طريق مسدود.
اللمبي شخصية صنعت نجومية محمد سعد الطاغية. جعلته صانع الملايين للمنتجين، ونقلته من ممثّل مطحون مضطهد إلى موقع النجم الأول. الانتقال جرى في عصر سينمائي يتسم بالتعجّل وعبادة التفاهة. التفاهة اختيار مختلف عن التسلية أو البساطة أو الخفة. التفاهة اختيار لصيد سهل من السطح الأول.لم يدرك صنّاع «اللمبي» أنّه يمكن اللعب معها بعمق، كي تحيا مثل شخصية إسماعيل ياسين القروي الآتي إلى مدينة تتغير بفعل الثورة، أو فؤاد المهندس الموظف في لحظة صعوده وسط طبقات الأرستقراطية القديمة. هذه الخلفيات تجعل الكوميديان أقرب إلى فيلسوف شعبي، وليس مجرد مهرّج يثير الضحكات والقفشات السريعة العابرة. تجعله أقرب إلى شارلي شابلن الذي كان يمثّل الإنسان الصغير في مواجهة أخطار الحضارة الحديثة. ولوريل وهاردي قدّما مجموعة أفلام، وفي خلفياتها القلق وأكبر انجازين لهذه الحضارة: البيت والسيارة. وفي كل مرة، ينتهي الفيلم بمشهد التدمير كأنّها رسالة إلى حضارة كاملة. كل هذا بخفّة وعمق ترتقي بالكوميديا إلى مصاف الفلسفة.
محمد سعد أكثر نجوم ما بعد «إسماعيلية رايح جاي» (1997) موهبةً في التمثيل. لكنه مثل اللمبي يسير ضد مصلحته. عشوائي تضخّم فجأة، وأصابته بارانويا النجم الأوحد الذي يخرج لنفسه تقريباً.
وبدلاً من توسيع مجاله بالاعتماد على عناصر أخرى في التفكير والفن، يتصوّر محمد سعد أنّه إله الفيلم الأوحد، قادر على صناعة معجزات، فلاحقه الفشل من فيلم إلى آخر. ولو كان اللمبي مكان محمد سعد، لما كانت اختياراته ستتغير.

«سينما سيتي»، «أمبير دون»، «أمبير غالاكسي»، «غراند لاس ساليناس» (1269) «غراند سينما ABC»، «غراند كونكورد» (01/343143)


النجم الرقم واحد

الممثل الكوميدي الشهير محمد سعد (1961) عرف الشهرة قبل ثماني سنوات حين ظهر في فيلم «اللمبي»، محقّقاً إيرادات تفوقت على عادل إمام ومحمد هنيدي. وبعد عام، ألحقه بشريط «اللي بالي بالك» الذي حقّق نجاحاً أكبر، ثم «عوكل» و«بوحة». وحققت الأفلام الأربعة التي اعتمدت على شخصية «اللمبي» إيرادات تجاوزت 20 مليون دولار، ليصبح سعد النجم الرقم واحد في شباك التذاكر المصري.