عباس و«نقد الألم»


ننشر تباعاً نصوصاً ورسائل من أصدقاء عباس بيضون وزملائه ومحبّيه حول العالم

أمجد ناصر *
لا أعرف لِمَ لم يؤخذ كلام عباس بيضون عن الألم على محمل الجد. أقصد على محمل شخصيّ. الألم مفردة أثيرة عند عباس. ومع ذلك أسيء فهمها. مع ذلك ظلت تعاني وحدها أو تكلّم أشباحها. قد يكون السبب ظنّنا أن عباس لا يتألم، وأن القصيدة، أو الكلمات، هي التي تفعل. الكلمات التي يجرجرها، بلا رحمة، فوق الحصى والدبش والأخلاط وحطام الحب والجسد. ظلَّ الألم حكراً على الكلمات، وظلّت الكلمات مقيمة في قلعة القصيدة. ترفع نُصباً لغوياً للألم، نعجب به ولكننا، للغرابة، لا نصدّقه. الألم هناك في الكلمات. والكلمات، في زمن موت المُنشئ أو تواريه عن صنيعه، لا علاقة لها بالجسد، رغم أنها تطلع منه! اخترع للألم ألف اسم، أعطاه ألف قناع، سيكون جميلاً، وربما قوياً، أن تفعل، ولكن ليس علينا أن نصدِّق. ولأن الشعر مجاز، نظنُّ أنَّ الألم مجاز أيضاً. فالشِّعر لا يُصدَّق. كلما كَذب كان أحسن!

✷ ✷ ✷


ليس دليلي على تردّد مفردة الألم عند عباس، وما يشعُّ منها، كتابه الشعري الموسوم بالمفردة ذاتها (نقد الألم). ذلك دليل سهل، ولعله يضاعف سوء الفهم. هناك معجم كامل للألم، للجرح، عند عباس بيضون: العقاقير، المراهم، الأقراص البيضاء، التعقيم، الشرايين، المصل، الدبابيس، الخرف، الندوب إلخ.
نقرأ لعباس عن الألم ونظن أنَّه أنين الكلمة، عن الأرق ونعتقد أنَّه رنينها أو إيقاعها الداخلي. هل نُقرأ، كلّنا، هكذا؟ هل تترك كلماتنا هذا الانطباع لدى الآخرين الذين هم نحن؟

✷ ✷ ✷


الأغرب أن عباس بيضون بدا (لي على الأقل) أشبه بشخوص الأنيميشن. تقفز من بناية، تنطرح على سكة حديد، تهرسها مدحلة، تسوّى أطرافها بالأرض ولكنها تنفض نفسها وتنهض! فلا جرحها يسيل منه دم، ولا سقوطها من حالق مؤلم، ولا دحل أطرافها يترك طعجة فيها، فها هي تنهض، أمامنا، شقية، كاملة، عنيدة، كعهدنا بها.
ومع أنني أعرف أن لعباس أرومة في الجنوب (لها امتداد في الأردن) لكنه، لسبب ما، بدا لي أنه مقطوع من شجرة.. تلك التي تشبه حطّابها.. فهو ليس مثلنا تشغله العائلة، وتربكه الجيرة، وتفتت أعصابه استحقاقات البيت، وينكّد عليه أقارب قادمون من بعيد!
هل هذا ما جعلني أعتقد، حتى في اللحظة التي كان يرزح فيها تحت غيمة الخدر الثقيلة، أنه سيعود؟ أنه سينجو من تلك المكيدة التي يسقط فيها غيره بسهولة، أنه سينفض نفسه ويلملم أطرافه التي تناثرت، في سهوة عادية، وينهض؟ ربما.

✷ ✷ ✷


عباس غامض رغم أنه يتكلم كثيراً، رغم أنه، تقريباً، لا يسمعك وأنت تكلِّمه. فكيف يكون المرء غامضاً وهو يتكلَّم بلسانه ويديه وصلعته وشاربيه الكثين؟ ربما لأن عباس لا يتكلَّم عن نفسه. نادراً ما سمعته يشكو أو يبوح، فإن فعل يغمغم. كلامه غير شخصيّ. وكل كلام غير شخصيّ يزيد مساحة الغموض. فهل نعرف عباس فعلاً؟ لست متأكداً من ذلك. نعرف كيف يفكِّر في الشعر والسياسة والفن التشكيلي، ولكن لا نعرف ماذا يخبّئ خلف قفصه الصدريّ المُربَّع.

✷ ✷ ✷


لكن الأكيد (وقد كتبت هذه الأسطر، باستثناء الفقرة الأخيرة، في لحظة خدره الطويلة) أنني أردته أن يقرأ كلماتي ويضحك، أن يحكَّ صلعته ويغمغم بما يشبه القول: هل أنا هكذا؟ وها هو أصبح، كما علمت، قادراً على ذلك.
سلامات يا عباس.
* شاعر أردني