حين نحكي عن شراكة بين ضفّتي المتوسط اليوم، ننسى المخيال الذي ما زال حاضراً بقوّة بين الغرب والإسلام. علاقة تاريخية يرصدها الباحث السوري في كتابه «صورة الآخر في الثقافة العربية» (دار الساقي)
ريتا فرج
«الجحيم هو الآخر، أنا في حاجة إلى توسّط الآخر لأكون ما أنا عليه». بنبرته النخبوية، رسم جان بول سارتر الحدود الفلسفية للعلاقة المتعارضة والمتثاقفة في آن، بين الأنا والآخر. وإذا كانت أدبيات «الغير» التي صاغها هيغل تستند إلى ثنائية الوعي والجسد، وتفترض أوليّة الأنا المُفتَكر لإظهار وعي الذات، فإن الآخر في الثقافة الإسلامية لم يكن نتاجاً إلّا لهذا المُتخيل التبادلي على القاعدة القرآنية «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
«صورة الآخر في الثقافة العربية من القرن السادس حتى مطلع القرن العشرين» (دار الساقي) يبدو بانوراما تاريخية يرسمها حسين العودات، بما تحويه الأنا العربية من انبعاثات تجاه الآخر قبل الإسلام وبعده.
المُتخيّل العربي الإسلامي لم يتداع إلى «الغير» من الشعوب من منطلق التنميط الاستباقي إلّا في حقبات معينة. حين كان في أوج ألقه الحضاري زمن العباسيين، كانت الأدبيات تشير إلى الأمم الكبرى، والإعجاب بالثقافة المختلفة، والأخذ منها وعبرها. ورغم أن أدب الرحلة عند العرب المسلمين يغزوه الخيال في رصد القوميات البعيدة عن مجالهم الجغرافي، بفعل عدم المعرفة لا النبذ، كانت صورة العرب عند الأوروبيين حبلى بالاستعراق. هكذا، أطلقوا عليهم اسم «الزؤان»، وتمادوا في الأزمنة المتأخرة، إلى حدّ التنظير للإيديولوجية الأنوية من موقع تحضير الأمم.
قبل الإسلام، لم يتخطّ الآخر عند عرب الجاهلية المحيط القبلي. ورغم نظرتهم إلى الفرس والبيزنطيين من موقع «الإعجاب الشديد»، بقي العالم منغلقاً، قائماً على «الضعف والدونية» تجاه من كانوا أكثر منهم تقدماً. لكن لماذا مثّل التقدم الحضاري معياراً للتوجّس من الآخر؟ لا يقدّم العودات جواباً. وبصرف النظر عن مقاييس التماهي مع القوميات المتقدمة في العصر الجاهلي، تبقى هذه المرحلة من أشد المراحل غموضاً. ولعل العمل الموسوعي لجواد علي «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» يسعفنا هنا أكثر مما يطرحه هذا الكتاب.
منذ القرن العاشر الميلادي، برزت مسألة التثاقف مع الآخر
الآخر ـــــ اليهودي والنصراني ـــــ لم ينظر إليه عرب الجاهلية من موقع الرفض الديني. فالذين وفدوا منهم إلى الجزيرة بفعل الاضطهاد وغيره، كان لهم دورهم الثقافي. فما الذي حدث مع مجيء الإسلام؟ ومن هو الآخر بعد الثورة التي قادها الرسول؟
هنا، يلحظ العودات بداية التفريق القرآني بين اليهود والنصارى، عشية نشر الدعوة. فالافتراق لم يقم على المستوى السياسي فقط. لقد كان للقرآن وجهته الخاصة على المستوى العقائدي. الرؤية الكوسموبوليتية التي أضفاها النص المقدس على الآخر الديني، في سوره المتعددة، اعترفت بأهل الكتاب. فهذا الدين الذي وصفه عبد الله العلايلي بأنه «مألفة أديان»، ساوى بين الأنا والآخر عبر مسالك التوحيد. صحيح أنّ الإسلام جبّ ما قبله، غير أنّه قدّم تصوراً شمولياً للمتعدد.
ما إن بدأ عهد الفتوحات، حتى تبدّل المتخيّل تجاه المتعدد. وحين تابعت الدولة الإسلامية في العهد الأموي امتداداتها مع الفتح، ارتسمت مقاييس مختلفة، مثّلت انعكاساً للمعطى السياسي، لا الديني، ما اقتضى إعداد العدَّة الأدبية والفقهية كي تجيب عن أسئلة «الواقع الثقافي والإثني والديني»، كما يشير الكاتب.
صورة الشعوب القريبة على ضفّتي الآخر الفارسي والبيزنطي، اتخذت مساراً مختلفاً عمّا كانت عليه قبل الفتوحات الإسلامية. عندما بدأ العرب المسلمون بناء إمبراطوريتهم، ظهرت على سطح الوعي الجمعي العادات القبلية القائمة على التمرتب القومي. فالفارسي منظوراً إليه من قبل الذات العربية، بات آخر أدنى. ومع العصر الأموي، كما يلفت العودات، «نُظر إلى الفرس من منزلة اجتماعية أدنى» وحُرموا حقوقهم السياسية، رغم إسلامهم. لكنّ وصول الفرس إلى السلطة في عهد العباسيين، أحدث انقلاباً من باب التشيّع هذه المرة.
مع خروج العرب المسلمين من مجالهم بقوة الفتح، تغيّرت مقاربتهم للآخر. «منذ القرن العاشر الميلادي»، تولّدت أنماط جديدة قوامها التثاقف مع الآخر والاعتراف به، وأدركوا حينها «أن قيم الإسلام هي قيم إنسانية لا يُشترط لتحقيقها أن يكون المجتمع مسلماً».
لكن ماذا عن الآخر الأوروبي في مرآة الذات العربية؟ لم تؤطّر هذه الذات تمثلاتها عن الأوروبيين إلّا مع حروب الفرنجة. قبل ذلك، «كان الآخر فارسياً وهندياً وبيزنطياً، لأن أوروبا لم تمثّل ثقلاً حضارياً». فما الذي أخَّر الحضور الأوروبي كل هذه الفترة في وعي العرب وذاكرتهم؟ لم يشعر المسلمون بثقل الغرب السياسي والعسكري إلّا مع الحروب الصليبية أو حروب الفرنجة، وفق الأدبيات الإسلامية. ولا شك في أنّ «الحرب المقدسة» التي خاضتها أوروبا أحدثت صدمة جرحية استمرت حتى أواخر القرن الثاني عشر. آنذاك، بدأ الضمور الحضاري يدبّ في ديار الإسلام.
والمفارقة أن اكتشاف العرب للآخر الأوروبي تظلَّل بالحملات الصليبية، فنتج منها تداعيات لا تزال حاضرة في ذاكرتهم حتى اليوم. وهنا، نُحيل على أطروحة أمين معلوف «الحروب الصليبية كما رآها العرب». الغرب لم يكتفِ بهذا الحد، فكان له توسّعه الاستعماري ونظرياته الاستشراقية الملتبسة عن الإسلام، لا تقل ضراوة عن الإيديولوجيا الغربية التي أناطت بنفسها رسالة تحضير الشعوب المتأخرة بالاحتلال العسكري حيناً، ونشر الديموقراطية حيناً آخر. واليوم، حين يُتحدث عن شراكة متوسطية بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، يبقى المخيال حاضراً بين الطرفين، أي أوروبا والإسلام. ونحن نحتاج ـــــ بغض النظر عن الأدبيات الغربية التي جعلت الإسلام حرباً على الغرب كما نادى أوليفيه كاري ـــــ إلى إعادة نسج العلاقات المتأسّسة على المصالحات التاريخية، رغم سطوة العامل الديني، وهو العامل الذي يصفه جاك غودي في أطروحته «الإسلام في أوروبا» بأنه «عامل قوي قد تنفر منه نفوسنا».
عبر المنهجية التاريخية، صاغ العودات كتابه بأسلوب لغوي رشيق، غنيّ بالمعلومات، وكثيف التوثيق، لكن هناك إشكاليات وفرضيات مهمة لم يعالجها، من دون أن يعني ذلك وجود فجوة معرفية. فهو مثلاً لم يعالج الأسباب المؤدية إلى تغليب الطابع السياسي في تبديل صورة الإسلام تجاه الآخر. ولم يتطرق إلى بدايات التنظير الفقهي لمفاهيم أهل الذمة ودار الإسلام ودار الحرب. ولم يشر في سياق تحليله إلى بعض المعطيات التاريخية عن تساؤل أساسي: أيهما أكثر وقعاً في الإسلام التاريخي ملاقاة المتعدد أو الحرب معه؟ لا يقدم صاحب «العرب النصارى» جواباً. لكن ذلك لا يمنع عن أطروحته الغنى التوثيقي، وانسيابية السرد.