«لأني لست شخصاً آخر» (الهيئة العامة لقصور الثقافة ــ القاهرة) هو عنوان المختارات التي صدرت أخيراً لصاحب «بشر وتواريخ وأمكنة» الذي صنع مع آخرين منعطفاً أساسياً داخل الشعر السوري
حسين بن حمزة
تستحقّ مختارات منذر مصري الصادرة بعنوان «لأني لست شخصاً آخر» (الهيئة العامة لقصور الثقافة ـــــ القاهرة) نوعين من الحفاوة: الأولى تتعلّق بجودة هذا الشعر، والثانية بكون المختارات إشارة جديدة إلى أنّ تجربة هذا الشاعر السوري حظيت أخيراً بفرصة الاستقرار والرسوخ، بعدما حظيت ـــــ متأخرةً ـــــ بفرصة الوصول إلى القارئ بانتظام.
بدأ منذر مصري الكتابة أوائل السبعينيات من القرن الماضي، لكنْ باكورته «آمال شاقة»، ومجموعتان أخريان هما «الكره أعمى الحب يرى» و«دعوة خاصة للجميع» لم تُنشر حتى عام 2006.
في الأثناء، صدرت مجموعته «بشر وتواريخ وأمكنة» (1979) التي وضعت اسمه إلى جوار آخرين صنعت بواكيرهم منعطفاً أساسياً داخل الشعر السوري، وداخل قصيدة النثر العربية تحديداً. البداية الناضجة والمنحرفة عن السياق الشعري الدارج، لم يُكتب لها الوصول إلى القارئ وفق تسلسلٍ زمني طبيعي. لسنواتٍ طويلة، ظل منذر مصري صاحب ديوانٍ يتيم، إضافةً إلى حضوره مع الشاعر الراحل محمد سيده وشقيقته الشاعرة مرام المصري في ديوان مشترك حمل عنوان «أنذرتك بحمامة بيضاء» (1984).
لاحقاً، سنكتشف أنّ القليل المنشور لم يكن سوى قمة جبل الشعر الذي ظل مطموراً ومغيَّباً عن النشر. نشير هنا إلى أن ديوانه «داكن» (1989) صدر وصادرته وزارة الثقافة السورية. سننتظر حتى عام 1997 كي تنتظم أعماله بالصدور، وتقرأ: «مزهرية على هيئة قبضة يد»، و«الشاي ليس بطيئاً» (2004) و«من الصعب أن أبتكر صيفاً» (2008).
قصيدة أدارت ظهرها لحفلات البلاغة والتهويم اللغوي
من العناوين السابقة، جُمعت المختارات التي تتجاور فيها محطات، ولحظات ومناخات شعرية يتّضح من خلالها أن منذر مصري بدأ ناضجاً، وأنه واظب على كتابة القصيدة نفسها تقريباً. القصيدة التي أدارت ظهرها لحفلات البلاغة والتهويم اللغوي والتفجّع العاطفي، ساعيةً إلى اكتشاف الشعر في المجلّدات غير المطبوعة للكلام اليومي والاعتيادي المدعّم بمشهديات وتفاصيل وأفكار من المزاج نفسه. صارت القصيدة «بشراً وتواريخ وأمكنة» بحسب العنوان ذي المذاق المختلف الذي أطلَّ به الشاعر أول مرة على المتلقي. تخلَّت القصيدة طواعيةً عن أسلحتها التقليدية، وبات على الشاعر أن يهتدي إلى أسلحة جديدة. الواقع أن صفة «الأسلحة» التي غالباً ما تُستخدم في هذا السياق لا تبدو لائقة بصفات الهشاشة والرهافة والخفوت التي تتناهى إلينا في معظم ما نقرأه في مختارات منذر مصري. من الحياة التي تحدث له ولآخرين يشبهونه، كتب الشاعر أعماله. الشعر نفسه صار مادة للكتابة: «عملي هو ما أقوم به/ لآكل وأشرب/ أما الشعر فهو ما أقوم به لأحيا/ وأرجو ألا يغيظكَ/ تعصّبي هذا ونكراني/ فلستُ سوى طفلٍ ضائع يبكي/ حين ينتزع الشعر كُمَّ قميصه من قبضتي/ ويخرج لقضاء إحدى حاجاته». وفي قصيدة مدهشة، يتراءى له أنه امتلك ما يُبطل دهشة الكتابة: «تباً لي/ بتُّ أعرف دربي/ كيف أسوق أفكاري/ كيف أركّب تعابيري/ تباً لي/ بات لي مشتلٌ لخيالي/ وصنبورٌ لمشاعري/ وقالبٌ أصبُّ فيه قصائدي/ تباً لي/ بات لي أسلوب».
النضج يفوح من قديم الشاعر ومن راهنه وممّا بينهما أيضاً. بطريقة ما، نحس أن الزمن لم يُظهر التصدعات والشقوق التي تصاب بها النصوص بعد وقت طويل على إنجازها. هناك نوع من الخلود المحبّب يتجوَّل في هذا الشعر الذي يبدو كأنه خالٍ من المكونات التي تفسد بتكرار القراءة أو مرور الزمن. في قصيدة صغيرة من ديوانه الأول، نقرأ ما يصلح أن يكون شرحاً لطموحات الشاعر الذي رغب باكراً في أن يسلك طريقاً جانبية إلى الشعر: «وداعاً للطرق المعبَّدة/ وداعاً لإشارات المرور/ عليّ أن أتّخذ دربي عبر الغابة/ عليّ أن أكون شقياً».
الطريق الجانبية التي سلكها مصري ستجمعه مع أقران محليين وعرب، وستعود تجربة الماغوط كأفق مستعاد (لكن غير وحيد) لتعزيز هذا النوع من الكتابة التي تُستثمر فيها سيرة الشاعر بوصفه كائناً صغيراً ومواطناً ذائباً بين حشود المواطنين، بعدما كان الشاعر نبياً وقائداً أو صاحب أحلام كبيرة ومنكسرة. مع قصائد هؤلاء، ستبدأ حداثة شعرية ثانية بعد الحداثة الأولى التي طوِّبت باسم الرواد في نهاية الخمسينيات. مختارات منذر مصري، كما «المختارات» و»الأعمال الكاملة» التي صدرت لأقرانه، دليلٌ على ترسّخ هذه التجارب، وتحولها إلى احتياطي شعري أقرب إلى ذائقة وطموحات الشعراء الجدد من تجارب معظم الروّاد.