أميركا شرّ مطلق اسألوا الرفاق في الجنوبلندن ــ محمد العطّار
أمام سينما «إمباير» في لندن التي شهدت العرض الخاص بالشريط التسجيليSouth of the Border، امتد طابور طويل من عشّاق أوليفر ستون. صاحب «نيكسون» يُعدّ اليوم أحد أبرز السينمائيين الأميركيين خلال العقود الأربعة الأخيرة، اشتهر بأفلامه التي انتقدت بلا مواربة الرأسمالية المتوحشة والوجه الحقيقي للحروب التي شنتها أميركا على العالم.
في «جنوب الحدود»، تطالعنا نيّات المخرج الواضحة: انتقاد للسياسة الخارجية الأميركية في التعامل مع القارة اللاتينية، والسخرية من الماكينة الإعلامية المسؤولة عن تضليل الرأي العام من خلال تصوير النضال اليساري بأنّه إنذار بصعود ديكتاتوريات جديدة تهدّد مصالح أميركا السياسية والاقتصاديةالفيلم رسالة هجاء لاذعة لسياسات الولايات المتحدة التي تهدف إلى إجهاض محاولات الاستقلال الاقتصادي والسياسي في القارة النامية: من دعم الأنظمة العسكرية في البرازيل والأرجنتين، إلى دعم انقلاب بينوشيه الدموي في تشيلي الذي أطاح الزعيم اليساري المنتخب ديموقراطياً سلفادور الليندي، وصولاً إلى اغتيال غيفارا...
في اللحظات الأولى من «جنوب الحدود»، يتعمّد ستون بثّ مقتطفات من نشرات إخبارية من «فوكس نيوز» و ABC News. هنا، نرى تحليلات كاريكاتورية للوضع السياسي في فنزويلا، كوصف تشافيز بالديكتاتور المتوحش الذي يمثّل خطراً يفوق خطر «القاعدة» وبن لادن. لقطات قابلها الجمهور اللندني بالضحك. لكن هل ينطبق الأمر على ملايين الأميركيين القابعين في بيوتهم؟ يبدو السؤال مشروعاً في ظل سيطرة الشبكات العملاقة على الرأي العام الأميركي وحتى العالمي.
طوال أكثر من سبعين دقيقة، نرافق المخرج وهو يجول على سبع دول لاتينية ليلتقي زعماءها. لا نرى من المشهد السياسي سوى ما يريد منا ستون أن نراه: مدّ يساري يمهّد لنمو اقتصادي غير مسبوق، ونهضة صناعية، واستقلال في القرار السياسي عن الجار الأميركي... المشهد بعدسة ستون يكاد يكون طوباوياً. يُذكِّرنا شريط صاحب JFK بأعمال مايكل مور الأخيرة، حين يستخدم الآليات نفسها التي ينتقدها. فإذا كان الهدف كشف زيف الحقائق بفعل الماكينة الإعلامية الأميركية وأحادية الطرح، فإن بنية فيلم ستون ليست في منأى تماماً عن تلك المطبّات. يخصّص صاحب W النصف الأول من الفيلم للحديث مع تشافيز، ومحاولات أميركا المتكررة لمنع وصوله إلى الحكم، هو المُنتخب ديموقراطياً، فيما يأتي النصف الثاني للقاءات سريعة مع زعماء آخرين: موراليس (بوليفيا)، ولولا (البرازيل)، وكريستينا كيرشنر (الأرجنتين) وأيضاً زوجها الرئيس الأسبق نيستور كيرشنر، ورفاييل كوريا (إكوادور)، وفرناندو لوغو (الباراغواي) وبالطبع راؤول كاسترو (كوبا)، إضافة إلى لقاء مع المفكر اليساري البريطاني الباكستاني الأصل طارق علي الذي شارك في كتابة سيناريو الفيلم.
إفراط ستون في إضفاء طابع الودية على هذه اللقاءات، جعل بعض اللحظات تحيدُ عن مقصدها الأساسي، لتظهر الشخصيات أقرب إلى صورة أحادية البعد، ليس من المفيد تكريسها حتى لو كانت تناقض الصور المقيتة التي لطالما رافقت مخيلة أبناء القارة اللاتينية عن حكّام مستبدين ببذلات عسكرية. فالرئيس البوليفي هو رئيس منتخب يمثّل نهجاً سياسياً. ويجب أن نعرف عنه أكثر من كونه أول رئيس للبلاد ينحدر من السكان الأصليين، والتركيز على خبرته في انتقاء أغصان الكوكا الأكثر نضرة لستون، كي يمضغها هذا الأخير، فيجرَّ المشهد إلى جوٍ كاريكاتوري أفسد المقابلة. كذلك بدت بعض اللحظات مفتعلة وركيكة، رغم جو الفكاهة الذي أدخلته إلى الشريط، كاللقطة التي نرى فيها تشافيز يقود دراجة هوائية في فناء البيت البسيط حيث ولد وترعرع في أحد الأحياء الفقيرة، أو

شارك المفكّر البريطاني الباكستاني طارق علي في كتابة سيناريو الفيلم

إصرار مخرجنا على لعب الكرة مع الرئيس البوليفي موراليس.
يُحسب لستون إصراره على تصوير اللقاءات من دون تقطيع وتغيير متكرر لزوايا الكاميرا، فإذا بنا نراه أثناء حديثه مع تشافيز أو لولا، يشير بيديه إلى إحدى الكاميرات أو لحاملي المايكروفونات لتغيير مواضعهم. وكنا نرى حركة هؤلاء ضمن الكادر، ما جعل اللقاءات تبدو نابضةً بالحياة. كما يحُسب للفيلم حسّ الفكاهة الساخر الذي توزع على لقاءات الزعماء. فالرئيس الإكوادوري رفاييل كوريا لا مانع لديه من أن تُقيم الولايات المتحدة قاعدة عسكرية على أراضي بلاده «شرط أن تسمح الحكومة الأميركية بإقامة قاعدة عسكرية لنا في ميامي».
ستون الذي تكوّن وعيه على أفكار والده «المثقف الجمهوري» كما يصفه، حارب في فييتنام ونال وساماً لشجاعته آنذاك. المخرج الذائع الصيت، الذي قطع روابط الصداقة مع كبريات شركات هوليوود، من شأنه أن يحقق النجاح الجماهيري داخل الولايات المتحدة، حيث نادراً ما يكتب النجاح للأفلام التي تنتقد السياسات القذرة في أميركا اللاتينية، من رائعة غوستا غافراس Missing إلى تحفة باتريسيو غوزمان «معركة تشيلي».
مع ذلك، تبقى أدوات ستون في مجال السينما التسجيلية عاجزة عن تكرار إبداعاته في حقل الأفلام الروائية، ويبقى «جنوب الحدود» متواضعاً من حيث الصنعة، وإن كان مُحمّلاً بالكثير من النيّات الحسنة.