براين هاو ورفاقه يناهضون الحرب في لندنعبد الوهاب عزاوي *
بخطى خفيفة وعينين متلهّفتين، يسير المرء في westminster، المنطقة السياحية الأكثر شهرة في لندن، حيث التماثيل تنظر بكبرياءٍ وغنجٍ من جدران عالية تحمل ألقَ الإمبراطورية القديمة. البشر يسيلون في الشوارع من كل الأعراق والأجناس، فسيفساء عابرة ومتغيّرة ومفتونة، ورجال الحرس الإنكليزي التقليدي يقفون عند أبواب الوزارات بملامحهم الشمعية، وضجرهم المكبوت من أناسٍ يتجمعون لأخذ صور مع هذه التماثيل البشرية العاجزة عن الرفيف.
يسير المرء حتى يصل ساعة «بيغ بن»، ومجلس العموم البريطاني جوهرة المعمار اللندني. استرخاء لذيذ يشلّ الحركة، وصورةٌ ورديةٌ تُنقش في الذاكرة. يكمل المرء مسيره فيُصدم بمنظر يتنافر مع استرخاء المكان، خيامٌ صغيرة تذكّر بمعسكرات اللاجئين أو المُهَجَّرِين، ولافتات عديدة ـــــ بعضها منثور على الرصيف ـــــ تندّد بالحرب على أفغانستان والعراق، وأناس مرهقون بعيون واسنة لا تفقد ثقتها. ستكتشف خلال ثوان التناقض العميق بين المعسكرين، بين خدرٍ لذيذ وحقيقةٍ تئن. إنه اعتصام «القرية الديموقراطية» كما يقول المجتمعون في هذا المكان.
يبادرك أحدهم بالسؤال: «هل أنت مع السلام أيّها الصديق؟»
حشدٌ بشريٌّ من مختلف الأعمار يتعاملون بحميمية وحماسة مفاجئتين، يبادرك أحدهم ـــــ اسمه جون ـــــ بالسؤال: «هل أنت مع السلام أيّها الصديق؟». الجواب مُربك بالنسبة إليّ لأنّه يتوقف على معنى السلام، فأجيب: «أنا مع العدالة». يبتسم مُرحِّباً ويدعوني للانضمام إلى المعسكر، ويجلس وراء طاولة فقيرة عليها بروشورات ووعاء بلاستيكي لجمع التبرعات. إنها مكتبهم الفقير. أسأله إن كان الاعتصام مفتوحاً للجميع، فيجيب ببساطة: «اجلب خيمتك وتعال معنا». وعندما يعلم أني سوري، تزداد حماسته ويعطيني دفتراً لأكتب اسمي وإيميلي للمشاركة في عريضة ضخمة. ويقول بفخر: «لدينا مناصرون من كل بلدان العالم، ومن كل الأديان، مسيحيون ومسلمون ويهود». ثم يقول لي: «للأسف، الإعلام العربي لا يهتم لأمر الاعتصام، وحالياً ليس هناك أيّ عربي بين المشاركين».
الاعتصام بدأ منذ أول أيار (مايو) والمشاركون يقيمون في الساحة ليل نهار، بعضهم موظفون يذهبون إلى عملهم صباحاً، ويعودون للاعتصام مساءً. البداية الفعلية كانت مع أسطورة لندنية سمعت الكثير عنها لاحقاً، وهي براين هاو الذي بدأ اعتصامه منذ عام 2001، وبات رمزاً لمناهضة الحرب. حتى إنّ بعضهم يعدّه مَعلماً سياحياً يأتي الناس لزيارته مثلما يزورون «بيغ بن». عند سؤالي عن الجنود البريطانيين الذي يشاركون في جرائم الاحتلال في العراق، يأتي الجواب سريعاً: «هم ضحايا الإرهاب أيضاً، ومنهم من يقيم بيننا. وما الإرهاب؟ إنه توني بلير». هكذا تأتي الأجوبة بسيطة، ولا تحمل الكثير من الجهد أو البحث، تُحمّل الحكومة كامل المسؤولية عمّا يحصل من عنف وجرائم بحق الإنسانية. وبالنسبة إلى فلسطين و«إسرائيل»، يأتي الجواب دقيقاً هذه المرة: «نحن ضد ممارسات الصهيونية العنصرية، لكنّ معركتنا الآن محدّدة، وهي عودة جنودنا من العراق وأفغانستان». ومع ذلك، هناك لافتات لفلسطين وللدفاع عن غزة المحاصرةالاعتصام يتألف من ثلاثين شخصاً تقريباً، قد يزيد العدد أو ينقص بحسب الوقت، يعيشون في ظروف صعبة، فهم يستحمّون قرب نهر «التايمز»، ويستخدمون مراحيض عمومية، ولديهم مطبخ عمومي. ويرفضون تقسيم الموجودين إلى تيارات سياسية، ويلحّ جون على أنّ فكرة مناهضة الحرب هي الهمّ الأساسي للمجموعة، مع أن اللافتات توحي بشدة بالخط اليساري. وبحسب ما علمتُ لاحقاً، فالكتلة الأساسية للمعتصمين تأتي من الشيوعيين والخضر وبعض المتشرّدين. هذه حقيقة مؤلمة، لكنها كما قال البعض «تجمع صور ضحايا جرائم الاحتلال في العراق مع ضحايا السياسات الاقتصادية». يتحدث المعتصمون بحماسة عن صراعهم مع محافظ لندن بوريس جونسون الذي ربح معركة قضائية بقصد إخلائهم من الساحة بحجة أقبح من ذنب، وهي «أنّ وجودهم يشوِّه جمالية المكان، ويمنع المعتصمين الآخرين من استخدام الساحة»، أي أن تضرب الحرية لتدافع عنها. إنها الحجة نفسها التي استُخدمت في قتل أبناء العراق لتحريرهم من الديكتاتورية، ورميهم في خضم مجازر عبثيّة وفساد سياسي.
وبالفعل، أُخليت الساحة قبل أيّام، وعُزلت بسور كبير لترميم عشبها ونباتاتها، وضمان عدم عودة المعتصمين إليها. لكن بعد أيام قليلة، عاد المعتصمون ليستخدموا الرصيف المحيط بها كأرض جديدة للاعتصام، مع ابتسامة واثقة ومعدية. حفنةٌ قليلة من الحالمين الذين لا يملكون غير أجسادهم وأصواتهم والقليل من اللافتات، والجديد لمن يراهم شعور كبير بالاختناق، فالخيام أكثر تراصفاً، وإلى جانبها تعبر السيارات طائشةً، فيما «ساحة الديموقراطية» مغلقةٌ حتى إشعار آخر.
* شاعر وطبيب سوري