غاص الشاعر السوري الراحل في سيرة أبي الطيّب، بغية إحيائه في مسلسل درامي. لكنّ التلفزيون حرّف السيناريو وخذل صاحب «أمي تطارد قاتلها»، فكتب يومذاك «المتنبي في ضوء الدراما» لرفع الالتباسات. المخطوط صدر أخيراً عن الدار التي تحمل اسمه في دمشق
خليل صويلح
ينسف ممدوح عدوان (1941 ـــــ 2004) كل التصوّرات الجاهزة عن شخصيّة المتنبي، ليخرج بصورة أخرى مغايرة تماماً، استناداً إلى اجتهادات معمّقة استقاها من مرجعيات مختلفة بهدف رسم صورة درامية عن «مالئ الدنيا وشاغل الناس».
كان الشاعر السوري الراحل يشتغل على إنجاز مسلسل درامي عن أبي الطيّب المتنبي، فاضطر إلى صرف سنتين من عمره لبناء صورة بصرية لهذا الشاعر المفرد. في كتابه «المتنبي في ضوء الدراما» (دار ممدوح عدوان ـــــ دمشق)، يكشف المؤلف عن الخطوات التي اتّبعها في اقتفاء أثر صاحب «الخيل والليل والبيداء تعرفني»، وكيف أخضع هذه الشخصية للشرط الدرامي أوّلاً: «وكان أن خرجت بنتيجة ملخّصها أنّ صورة المتنبي في أذهان محبيه ومبغضيه مختلفة كثيراً عن صورته الحقيقية، التي يخرج بها الدارس والمحلل المتمعّن».
الأسئلة الأولى التي واجهت ممدوح عدوان كانت تتعلق بحياة المتنبي الشخصية، هذه السيرة التي ظلت شبه مجهولة: هل كان بخيلاً أم كريماً، شجاعاً أم جباناً، مدّاحاً أم منافساً للملوك والأمراء؟ هل أحبّ خولة، شقيقة سيف الدولة الحمداني، وهل أحبّته؟ ثم ما طبيعة علاقته بالنساء، وكيف قُتل؟ لكن مهلاً: هل كان المتنبي نحيلاً؟ أليس هو القائل «كفى بجسمي نحولاً أنني رجل/ لولا مخاطبتي إياك لم ترني». في مسلسل «المتنبي»، سيؤدّي دور المتنبي سلوم حدّاد، اعتماداً على وصف للمتنبي ورد في مرجعٍ وحيد «كان رجلاً ملء العين، قوياً بديناً، فيه جفاء وخشونة».
رغم جهود الكاتب بقيت تلك الشخصية القلقة بلا سند تاريخي
عاش أحمد بن الحسين في النصف الأول من القرن الرابع الهجري. القرن الذي شهد اضطرابات كبرى، وصراعات دامية في ظل الخلافة العباسية الممزّقة. بالنسبة إلى شخص مثل المتنبي، كان يتنافس الأمراء والولاة على مديحه، لم يكن مستبعداً عنه طموح إلى الظفر بولاية أو إمارة مستقلة، حتى إنّه شارك في تمرّد القرامطة، وتعرّض للسجن على يد والي حمص الموالي للإخشيديين. وتالياً، فإنّ صورته المشتهاة في الخيال الشعبي وضعته في مكانة مرموقة، لجهة نسبه، وأقصت صفة «ابن السقّاء» عنه، لإكمال تلك التصوّرات عن شاعر فذّ، يحمل لقباً إشكالياً، وسطوة شعرية جعلت بعض الأمراء يجلسون بين يديه، وليس العكس، لتخليدهم في قصيدة مديح.
ويلفت عدوان إلى أنّ المتنبي حين يئس من الحصول على ما يطمح إليه، أدار دفّة شعره نحو الذات، وبات يعلي من شأن ذاته، وليس الآخر، كتعويض شخصي عن مكابداته. في النص الدرامي، يقول المتنبي مخاطباً أبا فراس الحمداني «سأترك لك الإنسان العادي الذي يحنّ إلى عاديّته. وسآخذ معي البطل الذي صنعته. يبدو أن لا أحد في حاجةٍ إليه». هكذا خرج المتنبي خائباً من بلاط سيف الدولة، فهو لم يمنحه إمارة كما وعده، ولم يزوّجه خولة. فانتهى به المطاف في بلاط كافور الإخشيدي في مصر، ليصاب بخيبةٍ أشد، فما كان منه إلا أن هجاه بقصيدته المشهورة «عيد بأيّة حال عدت يا عيد».
يشكك ممدوح عدوان في الشروط التي فرضها المتنبي على سيف الدولة قبل التوجه معه إلى بلاطه في حلب، بأن لا يلقي الشعر أمامه واقفاً، وأن لا يقبّل الأرض بين يديه. ويرى أن سيف الدولة هو من أتاح هذه الشروط للمتنبي للحفاظ عليه في بلاطه. كما يشكك في أسباب مقتله على يد فاتك الأسدي (354 هجرية)، إذ تتفق الروايات على أن سبب مقتل صاحب «على قلق وكأنّ الريح تحتي» هو هجاء ضبّة بن يزيد العتبي، والتعريض بأخته في القصيدة فقتله. ذلك أن هذه القصيدة المنسوبة إلى المتنبي بعيدة عن جوهر شعره بالمطلق. على الأرجح فإن القصيدة منحولة، أراد خصومه الانتقام منه بنسبها إليه. هناك عبارات بذيئة في القصيدة، يجد ممدوح عدوان أنها دخيلة على معجم المتنبي، الذي لم تخالطه أيّ مفردات مسفّة، حتى في هجائه لكافور الإخشيدي.
هل كان المتنبي سارقاً للشعر؟ يجيب ممدوح بأنّ المتنبي يمثّل ثقافة عصره بعمق، مذ كان فتى عند الورّاق أبي الفضل في الكوفة، إلى مكتبة سيف الدولة «وقد ذكر أكثر من مؤرخ له، أنه كان يتنقّل ومعه حمولة دوابّ من الكتب»: لعلّ حسّاده هم من ألصقوا به هذه التهمة التي تلاحق أصحاب الموهبة بقصد تحطيم خصوصيّتهم.
يقترح ممدوح عدوان طقساً للكتابة لدى المتنبي بالقول: «أظن أنّ القصيدة لديه لا تولد كاملة»، وإن سبب كتابتها مجرد ذريعة لتفجير مخزونه الداخلي الثري بالحكمة والأقوال المأثورة، من دون أن يعلم كيف ينهي القصيدة، وإلى أين ستأخذه.
الجهد الدؤوب الذي بذله شاعرنا الراحل عن سلفه، في رسم صورة درامية مشتهاة له، لم يتحقّق على الشاشة وفقاً لتصوراته. إذ واجهت المسلسل عقبات إنتاجية كثيرة، كما وقع النص ضحية الشطب وإلغاء مشاهد أساسية منه، هي من صلب الرؤية الدرامية للعمل، وهو ما جعله ينجز هذا الكتاب لتوضيح ما غاب عن المشاهد، وتصويب تصورات مغلوطة عن أحد أبرز شعراء العربية قاطبةً. لكن ممدوح عدوان لم يكشف المراجع التي اعتمدها في كتابة «المتنبي» إلّا في ما ندر، وتالياً، بقيت هذه الشخصية القلقة، غامضة، وبلا سندٍ تاريخي صلب.