بدأ الكتابة في الثمانينيات، لكنّه لم ينشر باكورته إلا بعد سنوات طويلة. أنجز هذا الشاعر العراقي أربعة دواوين تستعيدها «الأعمال الشعريّة» الصادرة عن «الدار العربيّة للعلوم». وقفة عند قصيدة تعجّ بأسئلة وجوديّة، ومرارات ذاتيّة
حسين بن حمزة
لا يصل القارئ إلى خلاصة تُريحه تماماً وهو يقرأ «الأعمال الشعرية» لنصير فليِّح (الدار العربية للعلوم). يضم الكتاب أربعة دواوين صدر أولها «دائرة المزولة» قبل عقد ونيّف، عام 1998، في حين رأى آخرها «أماكنَّهار» النور مطلع العام الحالي، وبينهما صدر: «إشارات مقترحة» (2007) و«الوجود هنا» (2008). التواريخ لا تقدم معلوماتٍ دقيقة عن تجربة الشاعر العراقي الذي بدأ الكتابة أوائل الثمانينيات، وآثر الظل والصمت والانزواء، قبل أن يدفع باكورته ـــــ متأخراً جداً ـــــ إلى النشر.
قلق القارئ متأتٍ من غموض محبّب يتحكم في نبرة الشاعر. غموض يُظهر جزءاً من المعنى ويُخفي جزءاً آخر. الغموض قد يغشّ أحياناً، فيجعل العادي مميّزاً، والمميّز عادياً. في تجربة فليِّح، يصبح ذلك أسلوباً، ويتكوّن المعنى من لغة لا تذهب مباشرة إلى تسمية الأشياء والأفكار والعناصر التي تتحرك في فضاء القصيدة. هكذا يتحول الغموض إلى نوع من التماوج الذي يجعل القصيدة ملموسة ومجردة في آنٍ واحد. في قصيدة «حب»، مثلاً، نقرأ ما يسلِّمنا الشعر ويسترجعه منا: «تململتْ في الفراش/ كان الصباحُ يجمّد الضوء في زهر الستارة، فوق وهج السرير المعالَج بالشمس، فوق خيط السحاب المكرّس لانقضاء الخيوط على ملمسٍ كالمساء/ كانت جميلة وصامتة، وكان السرير مكدّساً، وكانت الوردة فوق ماء القماش».
لغة توارب في تسمية الأشياء والأفكار، ونبرة يحكمها الغموض
ما قلناه عن الظل والصمت والانزواء، يجد تجلياته داخل القصائد. الشاعر مخلص لكتابة منتمية إلى معجمٍ مواربٍ يضع غلالةً بين القصيدة والقارئ. لا يسعى نصير فليّح إلى اصطياد الصور والمفارقات، بقدر ما يسعى إلى إنجاز حالة أو مناخ شعري. قد تمرّ بعض الصور الواضحة، كأن يقول: «رغم اختصار الصيف على قطرة في جبينٍ عابر»، أو: «انطفأ التلفاز، وظلت البرودة عالقةً في الشاشة الصامتة». لكنّ هذه الصور تظل جزءاً من مناخٍ شامل. البنية الطيفية لقصائد نصير فليّح لا تحجب عنا امتلاءها بأسئلة وجودية ومرارات ذاتية ومرثياتٍ غير مباشرة للحظات حياتية محددة.
والتراجيديا العراقية حاضرة بقوة، لكنّها حاضرة بشروط القصيدة الخافتة ومعجمها الموارَب: «صالة العمليات/ الأجيال السابقة/ طاولة التشريح/ السيوف/ الخيول/ المآذن/ ونحن هنا/ على الطاولة ذاتها/ كما هو الأمر دائماً/ عراةً/ إلى الأبد». السؤال الجمعي مترجم فردياً أيضاً: «الريح تعبث بالخصلات من جبهتي/ ترسم الباب/ أو تطرق النافذة/ أأكون ميتاً/ والريح دائرةٌ/ بما يبقى من الأوهام/ في الريح». في قصائد أخرى، تحضر أمكنة وشوارع وأحياء بغدادية، لكنّ المدينة المنهكة من الحروب والحصارات غارقة، مثل القصائد، في الظل والصمت: «لا أنت، ونجمتك المحمومة/ لا المرأة ـــــ حيث تشفّ الأيام بلا شجرٍ ـــــ/ لا الآخر: في مشفى القلب، وأوجاع الحرب/ لكلّ مبضعه/ نعتصر القطن/ ولا نجد الجرح». لا يبدِّل الشاعر مزاجه، بل تدخل الموضوعات، كبيرة أو صغيرة، داخل هذا المزاج المحكوم بالعوم في أحشاء المعنى لا على السطح المرئي منه. القصائد متفاوتة الجودة، ولكن لا يُفارقنا الإحساس بأنّنا نرى مشاهد منفّذة بألوان مائية، تغيم فيها الموجودات بدل أن تُرسم بدقة.