ياسين تملاليرغم أنّ أول نص روائي جزائري عربي اللغة كان «ريح الجنوب» لعبد الحميد بن هدوقة (1971)، إلا أن الطاهر وطار بغزارة إنتاجه (10 أعمال) وتنوّع مواضيعه أسّس الروايةَ الجزائرية المكتوبة بالعربية في منتصف السبعينيات، بعد بضعة عقود على ولادة نظيرتها المكتوبة بالفرنسية.
بدأت مسيرته الأدبية في تونس خلال حرب التحرير الجزائرية (1954 ــــ 1962) بنشر بعض النصوص وكتابة مسرحيات، لكن أول مؤلفاته صدر عام 1961، على شكل مجموعة قصصيّة («دخان من قلبي») بينها قصة «نوة». هذه الأخيرة بوصفها البليغ لتحالف الإدارة الاستعمارية مع ملاك الأرض، كانت إيذاناً بما سيكون عليه كاتبُها من إيمان بصراع الطبقات المرير وراء واجهة الأمة الواحدة المتحدة.
نشر وطار أولى رواياته «اللاز» عام 1974، فجاءت صدمة لمن كان يعتقد بأنّ مناقضة تاريخ الثورة الرسمي مهمةٌ مستحيلة على رجل هو ــــ عدا كونه عضواً في «الحزب الواحد» ــــ كاتبٌ لغتُه العربية. وما ألصقَ العربية آنذاك لدى قطاع كبير من الأنتلجنسيا بـ«الرجعية الدينية» من جهة، والأيديولوجية الرسمية من جهة أخرى. عبر «اللاز»، روى انتقال الشعب الجزائري من مرحلة تلقي ضربات الاستعمار إلى مرحلة الثورة. لكنّه روى أيضاً ما تخلل هذه المرحلة من مآس، منها تصفية جبهة التحرير لشيوعييها إثر رفضهم حلّ تنظيمهم والالتحاق بها.
ليست «اللاز» رواية واقعية ــــ اشتراكية. التصفيات الجسدية في أوساط الثوار تلقي بظلالها على التعبئة البطولية من أجل الاستقلال. لكن كاتبها كان اشتراكياً، لم يمنعه الانتماء إلى الحزب الواحد من إدراج الشيوعيين في عداد محرري البلاد، ما كان تابوهاً في أوساط هذا التنظيم الأحادي رغم يساريته الرسمية.
قناعات وطار السياسية تجلت في اختياره مواضيع رواياته: «الزلزال» تروي سعي البورجوازية إلى إفشال التأميم والإصلاح الزراعي. «العشق والموت في الزمن الحراشي» تصف الصراع في البلاد بعد استقلالها بين مؤيدي الثورة الزراعية و«الرجعيين» الذين يرفضونها لأن الطبقات «سنّة الله في الكون». في هاتين الروايتين أيضاً، لم يكن وطار بالكاتب الواقعي ــــ الاشتراكي المتفائل بـ«طبعه» أو بأمر من الحكام. بالعكس، سعى إلى تدمير أسطورة توازي الاستقلال والرفاهية، فرسم الجزائر في أبشع ما عرفته من فقر ورشوة بعد رحيل المستعمرين الفرنسيين.
ثم نشر روايتين «غير سياسيتين»: «الحوات والقصر» و«عرس بغل». تصف الأولى في قالب أسطوري رمزي إحباط «الرعية» (الحوات) العميق وهي تكتشف «راعيها» (القصر) في أفظع وجوه استبداده. فيما يتركّز «الخطاب الأيديولوجي» للثانية على فضح التاريخ الرسمي للدولة الإسلامية، والتذكير بما عرفته من حركات انتفضت على الإسلام المؤسساتي المهادن.
كان هذان النصان ختام مرحلة أولى من مسيرة الكاتب الأدبية، تلتها أخرى راوحت اهتماماته فيها بين تجذير نقده للنظام ووصف صعود الحركات الإسلامية. ونذكر من أعمال هذه المرحلة الثانية «تجربة في العشق» (1989) و«الشمعة والدهاليز» (1995) وكذلك «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي» (1999).
تبدو أولى هذه الروايات سيرة ذاتية من خلال حكاية مثقف يُفصل من عمله في وزارة الثقافة (وطار كان «مراقباً» في الحزب ثم أحيل إلى التقاعد). ويُسَلَّطُ الضوء على علاقة الأنتلجنسيا الجزائرية بالسلطة، وتردد الحكام بين الرغبة في كسب ودها ومصادمتها. ثم تتطرق الروايات الأخرى إلى صعود التيارات الدينية الأصولية في الجزائر (والعالم العربي). لم يعد يبدو التدين هنا، كما في نصوص سابقة، مرادفاً للرجعية ونصرة الإقطاع والبورجوازية. لكنّه ركز على مفارقات هذه الحركات الدينية وتأرجحها بين الرغبة في تحرير الإنسان وسعيها إلى ذلك بوسائل العنف والترهيب.
لم يكن وطار أديباً فحسب. كان أيضاً مجادلاً ماضي اللسان، ويمكن القول إن ازدياد وعيه بطاقة الدين التعبوية ــــ وهو يرى جبهة الإنقاذ تكاد تصل إلى سدة الحكم في التسعينيات ــــ ترافق مع تعمّق مقته لمن كان يسمّيهم «الفرنكوفونيين»، على اعتبار أنّهم كلهم لا يقفون في صف الشعب ولا يحترمون لغاته. وقد اتخذ هذا المقت أحياناً أشكالاً بالغة العنف كما حين علّق على اغتيال الكاتب الجزائري طاهر جاووت عام 1993: «لا أحد سيفتقده سوى أمه وفرنسا».
هذا الكلام رسّخ لدى مَن لا يعرف عن صاحب «اللاز» سوى مواقفه السياسية في التسعينيات، صورة كاتب محافظ بل إسلامي متطرف. وطار بتصريحاته المثيرة للجدل، مسؤول عن هذه الصورة، إلا أنها قطعاً كليشيه يهمل أنّه على «تعرّبه»، كان من أول من طالب بالاعتراف باللغة الأمازيغية... وأن «محافظته» لم تحبّبه يوماً إلى الإسلاميين الذين ظلّوا ينعتونه بـ«الكاتب الشيوعي».