أحد الوجوه الرائدة في الثقافة السعوديّة
لم يكن صاحب «شقة الحريّة» أفضل روائيي السعودية ولا أعظم شعرائها، لكنه كان الأكثر حضوراً وإثارةً للجدل. الدبلوماسي والوزير والكاتب الذي رحل يوم الأحد بعد صراع مع المرض، خاض معارك لا تحصى، وترك وراءه إنتاجاً أدبياً غزيراً


الرياض ــ بدر الإبراهيم
غازي القصيبي (1940 ــــ 2010) ليس رجلاً عادياً. لذلك لا يمكن أن يكون غيابه عن المشهد السعودي عادياً. صاحب المواهب المتعددة أغمض عينيه للمرّة الأخيرة أول من أمس، بعد رحلة طويلة ترك فيها أثراً مهماً في مجالات عدة، من الشعر والرواية إلى الدبلوماسية والوزارات المتعددة التي تقلّدها في حياته.
لم يكن أفضل الروائيين ولا أعظم الشعراء الذين أنجبتهم السعودية، لكنه كان أكثرهم إثارةً للجدل. وقد سمح له عمله العام، وإنجازاته الوزارية في نهاية السبعينيات، باكتساب شعبيةٍ إضافية جعلت حصر شهرته في الإطار الأدبي أمراً صعباً.
لقد كان ذكاؤه في التعاطي مع الإعلام سبباً لبروزه على حساب آخرين يفوقونه موهبة ربما، إضافةً إلى غزارة إنتاجه وتعرّض الكثير من أعماله للمنع الرقابي. كذلك، كان دخوله في صراعاتٍ شرسة مع تيار الصحوة الدينية عاملاً إضافياً لإثارة المزيد من الجدل حول شعره ورواياته.
صاحب «العصفورية» الذي تجاوز السبعين، رحل بعد صراع مع المرض استمر عاماً لم يتوقف خلاله عن الكتابة. وكان لرحيله أثر بالغ في الوسط الثقافي السعودي، هو الذي كان يُعدُّ من أهم من يذكرون عند استعادة الأدب السعودي المعاصر.
اشتُهِرَ في بداياته شاعراً، وصدرت له دواوين عدة: «اللون عن الأوراد»، و«أشعار من جزائر اللؤلؤ»... لكن ديوان «معركة بلا راية» يبقى الأشهر بالنظر إلى الضجة التي أثارها عند صدوره في بداية السبعينيات، إذ توافد المعترضون من المتدينين والمحافظين إلى الملك فيصل لحثّه على معاقبة الشاعر، وأُلّفت لجنة وزارية لمحاكمة الديوان انتهت إلى عدم وجود ما «يتعارض» مع الدين والخلق.
كذلك، كان للشعر أثر كبير في حياة غازي الوزارية. بعد نشر قصيدته الشهيرة «رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة» التي عاتب فيها الملك فهد لاستماعه إلى «الوشاة»، أُعفي من منصبه الوزاري قبل أن يصبح سفيراً في البحرين.
وخلال الانتفاضة الثانية في الأراضي المحتلّة، كتب قصيدة امتدح فيها العمليات الاستشهادية في فلسطين، ذاكراً بالاسم الاستشهادية آيات الأخرس. وكانت النتيجة أن طالبت بريطانيا بإقالته من منصبه سفيراً للملكة السعوديّة فيها... هكذا عاد إلى الرياض معرباً عن عدم دهشته: «ما من موقف يمرّ بلا ثمن».
في منتصف التسعينيات، أصدر باكورته الروائية «شقة الحرية» (الريس ـــ 1994) التي تحكي قصة أربعة شبان من البحرين يكملون دراستهم الجامعية في القاهرة. وعزز القصيبي في هذه الرواية صورة «الناصري التائب» التي اكتسبها بكتاباته السابقة وبسلوكه السياسي. وكانت الرواية نسخة سعودية عن أدب «عودة الوعي» الذي انتشر في العالم العربي بعد النكسة، ويُدين «الحلم الخادع» الذي عاشه الجمهور العربي في فترة الستينيات، ويكرّس ثقافة الهزيمة.
هذه الرواية نالت شهرةً واسعة، وطُبعت مراراً، وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني. ورغم أنها تحاكم الناصرية وتمجّد خصومها (بطريقة غير منطقية وساذجة أحياناً)، فإنها ظلت ممنوعة لفترة طويلة في السعودية قبل السماح بها في السنوات الأخيرة.
ثم توالت الأعمال الروائية، فكانت «العصفورية» و«أبو شلاخ البرمائي»، وقد جنح فيهما إلى السخرية اللاذعة من الأوضاع العربية، وأصدر رواية «دنسكو» التي ينتقد فيها الأونيسكو بعد فشله في الوصول إلى منصب مدير هذه المنظمة الدولية. كذلك أصدر «سبعة»، و«سعادة السفير»، و«الجنية».

في «شقّة الحريّة» عزّز صورة «الناصري التائب» التي اكتسبها بسلوكه السياسي

إلى جانب الشعر والرواية، كتب مجموعة كتب ضَمَّنها مقالات متنوعة، بعضها نُشر في الصحف، أشهرها «في عين العاصفة» وهي سلسلة مقالات كتبها أثناء حرب الخليج الثانية. كذلك دخل في جدل فكري مع مجموعة من مشايخ الصحوة الدينية مثل ناصر العمر وسلمان العودة في كتاب «حتى لا تكون فتنة» الذي أثار نقاشاً واسعاً في السعودية. نشر القصيبي أيضاً جوانب من حياته الإدارية التي تنقّل فيها بين الجامعة والوزارة والسفارة في كتابه «حياة في الإدارة». وأحياناً كان ينشر خواطر في كتيّبات صغيرة، ما جعل إنتاجه شبه سنوي.
كانت للقصيبي قدرة عجيبة على تنظيم الوقت. إلى جانب مسؤولياته المتعددة، لم يترك الكتابة والشعر. وقد نجح نجاحاً ملحوظاً في معظم المجالات التي دخلها، بغض النظر عن قيمة أعماله الكتابية والإدارية. وكان أذكى من تعاطى مع الإعلام، فتحوّل ظاهرةً على المستوى السعودي. مهما اختلفت الآراء بشأن الرجل، يبقى الإقرار واجباً بكونه ترك بصمةً حقيقية في التاريخ السعودي، شعراً ونثراً وحياةً إدارية.
رحل القصيبي، وترك ما كتبه إرثاً. هكذا أراد، وعبّر عن إرادته هذه في قصيدته الوداعية «حديقة الغروب»: «لا تتبعيني... دعيني... واقرئي كتبي، فبين أوراقها تلقاكِ أخباري». غيابه سيترك بلا شك فراغاً على الساحة السعوديّة والعربيّة...


المثقف الإشكالي بين الأدب والإدارة



ولد غازي القصيبي في الثالث من آذار (مارس) 1940 في الهفوف (محافظة الأحساء) لأسرة تجّار ميسورة. وبعدما قضى في الأحساء (شرق) سنواته الأولى، انتقل إلى المنامة في البحرين ليتابع دراسته. نال إجازة في الحقوق من «جامعة القاهرة»، ثم الماجستير في العلاقات الدولية. أما الدكتوراه في العلاقات الدولية، فنالها من «جامعة لندن» وكانت رسالته فيها عن اليمن، كما أوضح ذلك في كتابه الشهير «حياة في الإدارة». عمل القصيبي مديراً للمؤسسة العامة لسكك الحديد في السبعينيات، قبل أن يتولى وزارة الصناعة ويطلق قطاع الصناعات البتروكيماوية السعودية. وتجدر الإشارة إلى أن صراحته جلبت له الكثير من المتاعب، على امتداد مسيرته السياسيّة والإداريّة والدبلوماسيّة. خلال عمله سفيراً للسعودية في البحرين عند غزو العراق للكويت عام 1990، كتب القصيبي مقالات ينتقد فيها الحكومات العربية، والمجموعات الإسلامية التي تأخذ على السعودية تحالفها مع الولايات المتحدة، متسائلاً كيف يمكن أحداً الدفاع عن صدام حسين. ويُعدّ كتابه «أزمة الخليج: محاولة للفهم» دراسة لمعرفة أسباب هذه الحرب، ودوافعها، وسياساتها، وصنع قراراتها والنتائج التي تمخّضت عنها.
ولوزير العمل الراحل نحو 20 كتاباً ورواية، فضلاً عن كمّ كبير من المشاركات الكتابية والمحاضرات وغيرها. ومن أشهر رواياته «شقة الحرية» التي كانت ممنوعة من التداول في السعودية، وتحكي قصة مجموعة من الشبان المختلفي التوجهات والأفكار يسكنون معاً في القاهرة أثناء دراستهم الجامعية هناك. وتفصّل الرواية حالة التيارات الفكرية لدى الشباب العرب في فترة متوتّرة من التاريخ العربي 1948 ـــــ 1967. وهذه القصة مستوحاة من التجربة الذاتية للكاتب نفسه أثناء دراسته للقانون في «جامعة القاهرة» التي وصفها بأنّها فترة غنية جداً.

بعد أحداث 11 أيلول حذّر من «حرب غربيّة على الإسلام»

وبعد فشل القصيبي في الوصول الى رئاسة «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (الأونيسكو) عام 1999 أمام المرشح الياباني كوشيرو ماتسورا، أصدر روايته «دنسكو» التي ينتقد فيها هذه المنظمة الدولية من خلال قصة مرشحين من قارات عدة يتنافسون للفوز برئاسة منظمة تسمى «دنسكو». وبعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، حذّر الراحل من «صراع حضارات»، مديناً في الوقت نفسه زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن الذي وصفه بأنّه «إرهابي» و«وحش بشري».
وقال يومها في حديث إلى bbc: «نخشى أن تتحول هذه الحرب على الإرهاب التي ندعمها بلا أي تحفّظ، إلى حرب لأميركا والغرب على الإسلام».
من أبرز أعماله: «العصفورية»، و«سبعة»، و«هما»، و«سعادة السفير»، و«سلمى»، و«أبو شلاخ البرمائي». ومن مؤلفاته في الشعر «صوت من الخليج»، و«الاشج»، و«اللون عن الأوراد»، و«أشعار من جزائر اللؤلؤ»، و«سحيم»، و«للشهداء».