قبل أيام من رحيل غازي القصيبي، سمحت وزارة الثقافة والإعلام السعودية بنشر أعماله الممنوعة في المملكة، وهي قليلة... لكن ماذا عن الأدباء الآخرين؟
بدر الإبراهيم
إذاً، تمخّض الجبل فولد فأراً. هكذا صدر القرار «التاريخي» أخيراً من وزارة الثقافة والإعلام السعودية، ونُشِرَ على صفحة الوزير عبد العزيز خوجة على «فايسبوك»: «فسح جميع كتب غازي القصيبي». تنبّه الوزير متأخراً إلى كتب زميله الممنوعة، فقرّر أنّه «ليس لائقاً ألا تتوافر نتاجاته الفكرية والأدبية في مكتباتنا». جاء القرار والقصيبي على فراش المرض... قبل أيام فقط من رحيله.
الفرقعة الإعلامية عقيدة تتمسك بها وزارة الثقافة والإعلام في السعودية، وتجد فيها مخرجاً لفشلها في توفير مناخ ثقافي صحي. وطبعاً، كان لا بدّ لتلك القنبلة الصوتية الجديدة أن تجد مَن ينبهر بها، ويثني على تاريخيتها...
لكنّ قرار وزير الإعلام عبد العزيز خوجة ينثر علامات الاستفهام في كل اتجاه: لماذا اختار السماح بكتب القصيبي تحديداً دون سواه من الروائيّين السعوديين الممنوعين؟ هل لأنّه كان وزيراً؟ أم أنّ فسح كتبه أسهل على الرقابة من فسح كتب أخرى؟ ألا يوجد أدباء وكتّاب سعوديون آخرون يستحقون قرارات «تاريخية» من هذا النوع؟ ولماذا لم يتذكّر أحد القصيبي إلا بعد وصوله إلى ذلك الظرف الصحي الحرج؟
إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، فسنتذكّر أنّ كتب القصيبي لم تكن كلّها ممنوعة. في السنوات الأخيرة، سُمح بالعديد منها، وبقي عدد بسيط منها محاصراً. لذلك، لا يبدو القرار تاريخياً كما رُوّج له. كما أنّ قراراً كهذا لم يلقَ استحسان أدباء عانوا الأمرّين من الرقابة، ولم يكن لهم حظ في قرارات الوزارة التاريخية. عبده خال مثلاً علّق على الأمر ساخراً: «غازي ليس «خياراً» ونحن لسنا «فقّوساً».
المسألة الأساسيّة هي أنّ قرار وزارة الإعلام لا يعالج أساس المشكلة المتمثّلة في آليات عمل الرقابة في السعوديّة. من المعروف أنّ على الكتّاب السعوديين الراغبين في فسح كتبهم من جانب الوزارة أن يدخلوا في عملية بيروقراطية قاتلة. فلماذا لا تسأل الوزارة نفسها عن سبب الهروب الجماعي من الرقابة المحلية المتخلّفة، إلى دور النشر في بيروت ولندن (والقصيبي رحمه الله كان أحد الهاربين)؟
التخبّط هو السمة الأبرز لوزارة الثقافة. الوزير خوجة الذي يسمح بكتب القصيبي، يصرّح بأنَّه لن يفسح عن دواوينه الشخصيّة الممنوعة، تعفّفاً عن استخدام المنصب لمنافع شخصية. وهو هنا يقر بأن مسألة الفسح والمنع مسألة مزاجية لا علاقة لها بسياسات واضحة. إذاً ما زالت المكتبات السعودية تخلو من كتب عديدة تدخل معرض الكتاب السنوي استثناءً، وما زالت الوزارة تنصب نقاط التفتيش في المنافذ الحدودية لتصادر الكتب.

رحل القصيبي وبقي السؤال معلّقاً: من يتّخذ القرار بتحرير الثقافة؟

لا تقتصر قضية فشل الوزارة على فسح الكتب ومنعها، وعلى الفشل في تشجيع صناعة النشر في الداخل... المسرح والسينما يُذبحان من دون أن تحرّك الوزارة ساكناً. والفعاليات الثقافية غائبة، والأندية الأدبية تعج بالمشاكل، والحصيلة استمرارٌ لشكوى المثقفين واستمرارٌ لإهمال الوزارة لهم، واستمرارٌ لخوفها، أو مجاملتها للتيار المحافظ المعادي للثقافة، وتجميدها للأنشطة الثقافية تجنّباً لاستفزازه.
هكذا يواصل الوزير/ الشاعر عملية تجميل فشل وزارته، عبر قرارات بلا قيمة فعلية. هو الذي كانت الآمال معلقة عليه، بعد توليه الوزارة ليخرج الثقافة من ركودها الطويل، والإعلام من تقليديته القاتلة. لكنّه استعاض عن ذلك بالاستعراض على «فايسبوك» وبتصريحات جميلة الشكل، فارغة المضمون، على طريقة «كلّو تمام».
رحل القصيبي وبقي السؤال معلّقاً: من سيتخذ القرار الشجاع بتحرير الثقافة والمثقفين من قيود الرقابة البدائية؟ ومتى يجد أهل الفكر والإبداع في المملكة، وزارةً تدعمهم ضد التطرف والقمع الفكري؟ في وقت لا تزال فيه مختلف الكتب والأعمال الإبداعيّة محاصرة في السعوديّة، ترسم قرارات وزارة الـ«فايسبوك» مسافة شاسعةً جداً بينها وبين الثقافة.