قصيدته مكتظة بأسئلة وجودية ورؤية عدمية وتأملٍ فلسفي. «حارس الفنار» الذي عاش بصمت وازدرى الأضواء، يطلّ مجدداً في «الشعرية المفقودة» (دار الجمل). محاولة رد اعتبار إلى شاعر من طراز خاص كان رفيق السياب
حسين بن حمزة
«الشعرية المفقودة» (دار الجمل) هو الكتاب الخامس الذي يصدر عن تجربة محمود البريكان (1929 ــــ 2002)، والثالث بعد موت الشاعر العراقي طعناً على يد أشخاص يريدون سرقة منزله في البصرة. ينتمي البريكان زمنياً إلى حقبة الرواد. كان مجايلاً وصديقاً للسياب، لكنّه كتب شعراً مختلفاً عما كان سائداً حينذاك. شعر مهجوس برؤية عدمية وتأملٍ فلسفي للعالم. المذاق المختلف لهذا الشعر تعزّز بشخصية صاحبه الميالة إلى الصمت والعزلة وازدراء الأضواء. حجب الشاعر قصائده عن النشر. وحين نُشرت (من دون علمه، أو استجابة لرجاءات متكررة من أصدقائه)، حظيت بحفاوة كبيرة، لكن في الوقت عينه، ظلت غريبة ومنقطعة عن التطورات التي عاشها الشعر العراقي والعربي.
هكذا، أُحيط صاحب «متاهة الفراشة» بتبجيل كبير، بينما وُضع شعره على حدة. نعرف أنه شاعر من طراز خاص، لكننا لا نعرف كيف نجد لشعره مكاناً صائباً داخل ذائقتنا الشعرية. لعلّ خلود تجربة البريكان متأتٍّ من بقاء شعره خارج النمذجة. إنها تجربة عائمة، متفلتة من قيود الواقع الشعري ومعايير النقد الدارج. صفة «المفقودة» في العنوان متأتية من فكرة أن الشعر العراقي كان مرشحاً لأن يغتني بسياقٍ آخر إلى جانب السياق المعروف الذي سار فيه. سياق يستثمر الفلسفة والتأمل الوجودي للإنسان المعاصر. لكن هذا لم يحدث، لأنّ تبلور الاتجاهات الشعرية لم يشمل تجربة البريكان التي ظلت سرية تقريباً. والأرجح أن التبلور الذي حدث أدى دوراً ما في إحساس البريكان بالغربة، وتفضيله الانزواء. هكذا، تكتسب المحاولات المتكررة لإعادة الاعتبار إليه طابع إثمٍ ينبغي محوه أو خطأ يُراد تصحيحه.
يتضمن الكتاب ست دراسات لحيدر سعيد، وفوزي كريم، وسعيد الغانمي، وعلي حاكم صالح، وناظم عودة، وحسن ناظم، تليها ثماني شهادات لسعدي يوسف، ومحمد خضير، وعبد الكريم كاصد، وطالب عبد العزيز، وعلي عبد الأمير، وطارق حربي، وأسامة الشحماني وجمال واعي... وقصيدة لسركون بولص كُتبت بعد موت البريكان مباشرة.
يتناول المساهمون في الكتاب تجربة البريكان من زوايا مختلفة، لكنها تلتقي جميعاً في محاولة رفع الغبن عنه. إنها محاولات لاستدراك الفوات التاريخي الذي عاشته هذه التجربة الفذّة. الواقع أن هذه المحاولات ستظل محكومة بخصوصية صاحب «حارس الفنار» ومزاجه. كأن الشاعر اختار هذا المصير الذي يجعله «حاضراً كبيراً، وغائباً أكبر» بحسب شهادة سعدي يوسف الذي يقرّ بأنه تعلّم من البريكان بقدر ما تعلم من السياب. كتب البريكان قصيدة مختلفة ومتعالية على أغلب ما كُتب في زمنه. بالنسبة إليه، «الشعر فن لا يقبل التسخير، ولا يحيا مع الحذلقة، ليس وسيلة لتحقيق أي غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة».

أخرج تجربته من السياق الذي سارت فيه حداثة الرواد

أليس هذا الاقتباس بياناً شخصياً ضد كتابة سائدة رفض الشاعر أن ينخرط فيها؟ في قصيدة «عن الحرية»، نقرأ ترجمة لذلك: «قدمتمولي منزلاً مزخرفاً مريحْ/ لقاء أغنيّه/ تطابق الشروط/ أوثرُ أن أبقى/ على جوادي/ وأهيم من مهب ريحْ/ إلى مهب ريحْ». ونجد معنى مماثلاً في قوله: «أنا تخلّيتُ أمام الضّباع/ والوحش، عن سهمي/ لا مجد للمجد، فخذْ يا ضياعُ/ حقيقتي واسمي».
هكذا، أخضع البريكان تجربته لمزاجه الخاص. أخرجها من السياق الذي سارت فيه حداثة الرواد والأجيال التالية، وبلغ ذروة شعرية خاصة به، كما يقول محرر الكتاب حسن ناظم في المقدمة. كان يمكن تجربته، لو سلكت مساراً طبيعياً، أن تتحول إلى احتياطي ضروري يمدّ الشعرية العربية بنص فلسفي وتأملي لا نزال نفتقده. منع الشاعر قصيدته من احتلال «موقعها المستحق» لأنّه امتلك اقتناعات شعرية وثقافية مغايرة لأبناء جيله ولمن جاء بعدهم أيضاً. صحيح أن تجربته لم تأخذ حقها الطبيعي، لكن هل انتظر البريكان اعترافاً ممن حجب شعره عنهم؟
الواقع أن أغلب مواد الكتاب تدور حول هذه الفكرة من دون أن تسميها تماماً. إنها محاولات لمنح البريكان الاعتراف (الذي لم ينتظره ربما)، لكن بمفعول رجعي. لا ينتقص هذا السؤال القابل للنقاش من قيمة الكتاب المبني على مقاربات جادة وذكية، تسعى إلى رسم صورة صائبة للشاعر الذي عومل صمته كـ«قيمة شعرية لا تقلّ عن قيمة نصه الشعري».